ها أنا أتذكر كلماتك بلندن، لما كنت آتي لتسجيل لقاءات إذاعية معك، وكنتَ تستغرب من تشبث حكام العرب بالسلطة ومكوثهم على الكرسي والمحاربة من أجله بشراسة إلى أن يقضي الله أجلا ويخرجون من سدة الحكم و هم أموات مكفّنون بكره شعوبهم وشتائمهم ولعناتهم إلى أبد الآبدين. فهل أنت اليوم تختلف عنهم؟ أم أنت عامل بمقولة “حلال علي حرام عليهم”؟
بقلم توفيق المثلوثي*
أنا أعرف وأعي تماما أن اللحظة حرجة أشد الحرج، وأن أعداء تونس من خونة بالداخل و متآمرين من الخارج صاروا يشكلون تحديا حقيقيا وخطرا كبيرا. ولكن، هل أن تموقعك وأداءك يشكلان سدا منيعا ضد هيجانهم ومكرهم أم مبررا وحافزا لاستنفارهم واستفحال أمرهم؟
إن حنكتك ودهاءك السياسي لا ينازعك فيهما أحد، خاصة بعد موت الباجي رحمه الله و غفر له. لكن، الرجوع لله، فأنت اليوم توشك على الثمانين وآثار المرض تأبى أن تتخفى. فلماذا تكلف نفسك ما لا تطيق، بدعوى أنك لا يمكن الاستغناء عنك في هذا الظرف العصيب الذي تمر به تونس؟
إن إصرارك عل تصدّر المشهد رغم السّن والمرض ورغم أنف الغالبية الساحقة للتونسيين، سيضر بك شخصيا وبحركتك وسيزج بتونس في خانة ما لا تحمد عقباه.
إن مصلحة تونس تكمن في أن كل طرف من أطراف التدافع والصراع يراجع نفسه بالنقد الذاتي والتأهل للمصالحة الوطنية الشاملة والتأسيس للتوافق الحقيقي الذي يوحد الصفوف والجهود لتحقيق الإصلاحات المنشودة ووضع البلاد على سكة النهوض والتقدم.
ومع الأسف، لقد كان دورك منذ عودتك من منفاك سلبيا حيث أنك منعت الإصلاح والتجديد داخل حركتك ومارست التسلط والهيمنة والتشبث بالرئاسة مدى الحياة، في تناقض مع خطاباتك وكتاباتك عن الديمقراطية والحريات والحقوق.
أما على المستوى الوطني فقد غلب في أدائك استهداف السلطة على بناء الشراكة والتوافق، ومنهج المغالبة على المصالحة، واستخدام الدولة على خدمتها.
لقد نجحت، مع الأسف في تحقيق شبه إجماع وطني على أنك تشكل خطرا على الأمن القومي وعائقا للوفاق الوطني حتى أصبح انسحابك من المشهد شرطا ضروريا للتخفيف من الاحتقان والفتنة التي أرهقت حياتنا السياسية.
فهلا رحمت نفسك ورحمت البلاد بالانسحاب والخروج تلقائيا من الباب الكبير ؟
فأنت ترى أن نزيل قرطاج قد انحاز إلى معسكر استهداف النهضة والانجرار إلى الاستقطاب الثنائي الحاد بينكم وبين أعدائكم، ما ينذر بمزيد من التعفن والتدهور في الوضع العام.
وإزاء هذا الخطر فإني أحملك المسؤولية الأولى حيث أنك تعسفت على حركتك ومنعت اندماجها السلس في المنتظم السياسي بعيدا عن منهج المغالبة ومنزع الهيمنة بتشبثك بموقع الرئاسة وفرض معركتك الشخصية عليها.
ألم تعتبر بالماضي؟ في كل مرة تنفرج علاقتكم بالسلطة تعودون إلى المغالبة والاستفزاز فتجنون على أنفسكم وعلى البلاد.
أنا أعلم أن النهضاويين في غالبيتهم اتعضوا بتجربتهم واكتسبوا أقدارا من العقلانية والموضوعية والتجرد إلى المصلحة العامة ولكنهم عجزوا إلى حد الآن في التخلص من هيمنة الجيل المؤسس والزعامة التاريخية فقصروا كتنظيم عن التطور والتجدد بالقدر الكافي ليجعلهم عنصر استقرار وبناء على أرضية المشترك الوطني والتوافق الحقيقي.
واضح للعيان أن قيادتكم هي المشكل. فأنت الذي تستميت في البقاء رغم الجميع في الموقع الخطأ وتأبى أن تنزل في الموقع الذي يليق بك ويراه لك الناس حيث تحفظ كرامتك وتوفر الخروج الآمن.
يليق بك أن تنسحب من موقع الافتتان والاشتباك والتصعيد لترحم نفسك وتعتق حركتك وتخفف من منسوب الاحتقان والتشنج والفتنة في الساحة العامة.
يليق بك أن تنحاز إلى موقع الوسطية والتحكيم والمصالحة، موقع المرجعية الوطنية التي يلجأ إليها لفك النزاعات وإبرام التوافقات انتصارا للمصلحة العامة.
إني أشفق عليك أن تُفرّط في الخروج بالتي هي أحسن وتدفع إلى التخلص منك بالتي هي أسوأ.* وعندئذ يا خيبة المسعى ويا خيبة الغنوشي.
ولكني أشفق أكثر على بلدي أن تنتكس فيه الديمقراطية الناشئة، لا قدر الله، ويعود الإقصاء ويسود من جديد الاستبداد والفساد.
إنني أهيب بأحرار تونس نساء ورجالا أن يتسلحوا باليقضة الواعية والهمة الوطنية العالية لمنع التفريط في مكسب الحرية ومسار الانتقال الديمقراطي بدعوى “التصدي لخطر الإخوانجية” ومقاومة الفوضى والانحلال.
إن التجربة التونسية، على علاتها ووجوه القصور والتقصير فيها، تظل مفخرة لكثير من الشعوب المقهورة ونموذجا فريدا للتحرر من الاستبداد والظلم والأمل في بناء الإرادة الوطنية والأمن الشامل والعدالة الاجتماعية.
وإن البوابة لتخريب هذه التجربة الفتية هي العودة إلى الإقصاء والتنافي وتوريط التونسيين في التباغض والتحارب والتقاتل مثل ماهو حاصل في كثير من الأوطان في عالمنا العربي والإسلامي.
ًإنه لا أمل في الخروج من أزمتنا والدخول في مسار الانفراج والإصلاح والبناء لمستقبل أفضل إلا بالمصالحة الوطنية وطرد شبح الفتنة الداخلية والاعتصام بالديمقراطية عقيدة ومنهاجا.
أما التواطؤ مع الإقصاء والاستبداد للتخلص من خصم منافس مهما كانت عيوبه، فإنه جريمة أخلاقية وسياسية وخيانة للوطن ولعن للمستقبل.
فيا أيها الغنوشي، لا تكن سببا لاستهداف تونس الحرة ومبررا للمتربصين بوحدتها وبديمقراطيتها الناشئة لزرع البلبلة والاضطراب والفوضى والتشويش على أي محاولة للنهوض ذات صلة بالغنوشي وجماعته.
فأنت مطالب بعد أن أسعفت بالتمديد على رأس البرلمان أن تشرع دون تردد ولا تأجيل في إجراء مراجعات ومصالحات للتخفيف من التشنج والاحتقان في الحياة البرلمانية والسياسية عامة تمهيدا لانسحاب يتم بالتراضي والتوافق بين النهضة وشركائها وخصومها.
للإنصاف، لست وحدك المسؤول عن أزمة تونس. فالكل، إلا من رحم ربي، شريك في ممارسة السياسة الانتهازية المغانمية على حساب الدولة الوطنية والمصلحة العامة وفي الاستعداد لارتكاب الموبقات في سبيل ذلك. ولكنك أنت المسؤول الأول عن الفتنة التي تعيشها تونس اليوم. فأنت تحمل على أكتافك خمسين سنة من العلاقة المتأزمة مع الدولة وكنت قبل 2011 المقصى الأكبر ثم العائد الأكبر ثم الشخصية الأبرز والأكثر تموقعا وتأثيرا وإثارة للجدل.
وبدل أن تستغل موقعك الجديد لخدمة الاستقرار في تونس والوئام والتضامن بين التونسيين، تعبأت في منافسة على السلطة والنفوذ المالي والسياسي متغافلا عن افتقارك لشروط الحكم الذاتية والموضوعية.
وكانت النتيجة أنك استلمت الحكم دون أن تحكم بل ضمنت لنفسك ولحركتك الفشل تلو الفشل ولاحقتكم شبهات الفساد وتضاءل رصيدكم الشعبي وأصبحتم في نظر الناس سبب كل المصائب والرزايا قديمها وجديدها، بالحق وبالباطل.
أنت اليوم أقرب إلى تجسيد العلة من أن تكون مساهما في الحل. إلا أن تغير موقعك فتستقيل من رئاسة مجلس النواب المستفزة وتجنح للسلم والتواضع للمصلحة العامةبعيدا عن التنازع والمغالبة والانتصار للذات.
إنك لم تنفك تقدم في خطابك حجة التوافق على الشرعية الانتخابية كسبيل لمحاصرة الفتنة ومنع انخرام المسار الانتقالي. فهلا التزمت عمليا بهذا الفقه رحمة بنفسك وبحركتك وبالوضع العام؟
هذه نصيحتي إليك وقد سبقني غيري بها ولن أكون آخر من ينصحك بها لأنها وجبت بمنطق المصلحة الوطنية و بقاء تونس و شعبها في أمن و أمان.
سنرى، و التاريخ سيشهد، ماذا ستختار للوطن ولنفسك.
*ناشط سياسي وإعلامي.
شارك رأيك