سَبُّوا أمّه، من وراء أجهزة تتحرّك محرّكاتها من وراء البحار… فكتب نوفل سعيّد شقيق الرّئيس التونسي قيس سعيد في ألم : ” إلاّ أمّي… لا تسبّوا أمّي…أنا جريح”. لماذا جريح؟ و لماذا عليه ألاّ ينجرح؟
بقلم كريمة مكي *
جريح لأنّه دخل حديثا لعالم السّياسة البرّاق و المخادع و المفترس. و ربّما خدعه البريق فَنَسِيَ ما وراءه و ربّما لو دخل السياسة على صِغر و مشى على أسلاكها الشوكيّة بأقدام طريّة لما انجرح كلّ هذا الجرح. أمّا أن يدخلها اليوم على كِبَرٍ و هو يظن أنّ شيبة رأسه و صفته كشقيق الرّئيس و وظيفته المحترمة كأستاذ جامعي في القانون الدستوري ستحصّنه جميعها من الوقوع تحت سياط الألسنة المُعادية الكاوية فهو لا يمكن إلاّ أن يكون جريحا خاصّة و قد سبّوا أمّه: موطن الوجع الأزلي و نقطة ضعف كلّ رجل أيّا كان و أينما كان فما بالك برجل عربي بمرجعية دينيّة و أخلاقية تحتلّ فيها الأم مرتبة تصل رمزيّا إلى التّقديس.
و لأنّ الذين سبّوا أمّه يعرفون ذلك جيّدا و لأنّهم لا يملكون غير قذارة ألسنتهم و خِسّة طباعهم فقد انطلقت سمومهم من خلف الأجهزة و بأسماء مستعارة و مُضلّلة لتسبّ و تشتم و تقدح في غياب أدنى رادع قانوني واضح و قاطع و لو أنّه لا رادع عن الإيذاء كالضمير، إِنْ في وجود قانون أو خاصة في غيابه، و لكن و لأنّ الضمائر الصاحية و الراقية تظلّ دائما نادرة فقد جاز اليوم تحريك القوانين و إنفاذها لقطع ألسنة أهل الحقد العنكبوتي بسيف القانون الصارم مادامت لم تنفع معهم أساليب التربية الحديثة التي بَانَ لنا اليوم كم هي هجينة و مُفلسة و عقيمة.
يُحكى أنّه في زمن زين العابدين بن علي، تهاطلت على القصر رسائل مجهولة المصدر تحمل في طيّاتها فضائح و ملفات سوداء لأشخاص مهمّين في الدولة و أغلبها من هذا الوزير ضدّ ذاك و من ذاك المدير العام ضدّ ذاك و من ذاك السفير ضدّ ذاك و من كل صاحب صنعة يرى في صاحب صنعته عدوا. فوقف بن علي في لحظة حكيمة وقفة حازمة و قال : بلّغوهم أنّ أيّ رسالة لا تحمل اسم و لقب كاتبها و هويته الكاملة لن تُقبل. فانقطعت الرسائل المجهولة من يومها.
و استردّ أعوان البريد أنفاسهم و هم يتساءلون عمّن أراحهم فجأة من كلّ ذلك التعب مترحّمين، في سرّهم، على من كان السّبب!
رحم الله زين العابدين بن علي و غفر له.
حديثنا قياس يا أستاذ نوفل سعيد: حديثٌ أنت في دنيا السياسة و قد دخلتها، كما يبدو، لِتَشْدُدْ أزر أخيك الرّئيس و إن لم تكن لك بعد صفة رسمية نعرفك بها كأن تكون مثلا وزيرا من أهله كما كان النبي هارون لأخيه موسى عليهما السّلام. و إلى أن نتبيّن صفتك في دواليب الدولة فضلا عن كونك أخ الرئيس، فأنا أقول لك ، ان قبلت، طبعا، أن تسمع لقول امرأة : انتفع بما فعله الرئيس بن علي حتى و إن لم يكن لك أي تقدير لمرحلة حكمه، فالعاقل من ينتفع بعمل صالح يأتيه أحدهم حتّى و لو كان له عدوا.
لا تقرأ رسائلهم، يا أستاذ…
الرسائل خفية الاسم خبيثة النوايا لا تُقرأ، فإن قُرئت فلِتُترَك و إِنْ تُركت فلِتُنْسَى…
من يخفي اسمه ليقدح في غيره أو يسبّه هو لا يخفي في الحقيقة إلاّ ضعفه و عجزه و جبنه.
يا أستاذ، إن من يسبّ الخلق مُخفيا عن القارئ وجهه و اسمه فكأنّما لا سبّ و لا كَتب، فكيف، إذن، برسائلهم الرديئة كلّ هذا الهم تهتم!
إنها رسائل مكتوبة بلغة الجُبناء الحاقدة الوضيعة: لغة السبّ و الشتم و التحقير و المعايرة.
هم لا يعرفون شيئا عن لغة المحبّة السّامية فدواخلهم هشة و منفلتة و قلوبهم بالأحقاد معميّة و منغلقة و جروحهم النرجسيّة مفتوحة في أعماقهم غير ملتئمة فلا يغرّنك أبدا عنف هجومهم و حِدّة كلماتهم و قباحة ألفاظهم… ما ذلك إلاّ تعويضا عن كرههم لذواتهم الذي يعكسونه دوما في هجومهم على خصومهم ليزعزعوهم و يُفقدوهم ثقتهم بأنفسهم كما هم ،من صغرهم، فقدوها!
مفقودة ثقتهم بأنفسهم،
مجروحة محبّتهم لذواتهم،
مشروحة علاقتهم بأمّهاتهم!!!
من يُحبّ أمّه… لا يسبّ أُمّ غيره،
من يحبّ ذاته… يحبّ الخلق و الخالق فَتَخِفّ مُعاناته،
من يُحبّ… أياديه بالودّ تمتد
من يحبّ… لا يجرح و لا يَسُبّ،
من يُحبّ… لا يسُبّ…
أبدا… أبدا لا يسُبّ.
لا يَسُبّ إلاّ… مجروح حرمه الله من نِعمة الحبّ!
* مدونة و كاتبة.
شارك رأيك