لا أرى شخصيا فارقا كبيرا بين ما يقترفه الإرهابيون من جرائم والخطاب التحريضي المسموم الذي يروج له بعض المتشددين والمتطرفين والكثير من السياسيين الشعبويين المفلسين. لأن الإرهاب المادي هو مرحلة تنفيذية للإرهاب الفكري والسياسي والإعلامي، والمشرع في الديمقراطيات الكبرى لا يفرق بين منفذ الجريمة والمحرض عليها.
بقلم مصطفى عطية *
ولكن نحن في تونس لا نعير هذه الحقيقة انتباها وتركنا محاضن الإرهاب تنمو وتترعرع حتى وصل الأمر إلى الترخيص لأحزاب تطالب علنا بالقضاء على الدولة المدنية وإقامة الخلافة وترفع أعلام وشعارات تنظيم داعش الإرهابي على مرأى ومسمع من الجميع، كما تسلل المدافعون عن الإرهاب والمبيضون لجرائمه إلى الهياكل الدستورية والمؤسسات الإعلامية وكونوا إئتلافا داخل مجلس نواب الشعب تحت جنح ظلام الديمقراطية المزيفة.
فشل الحكومات المتعاقبة منذ 2011
لم تكن تونس خلال تاريخها الطويل، ومنذ تدمير قرطاج، في مأمن من مخاطر “الراديكالية” بكل أنواعها، بمعنى أن المسألة ليست حديثة كما قد يعتقد البعض، ولكنها أخذت أبعادا أخرى بحكم طوارئ هذا الزمن، وذلك بٱندراجها في منظومة موصوفة هي “الراديكالية المعولمة”، التي برزت معالمها الأكثر كارثية في التشدد الديني والتطرف العرقي والقومي والعنصري الذي تروج له الأحزاب والتيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا وأمريكا الشمالية، بالإضافة إلى الإنغلاق الطائفي الذي تفشى في العديد من مناطق العالم وخاصة المنطقة العربية.
لكن الخطير جدا في الأمر هو ما تفيد به البحوث والدراسات التي أنجزتها هيئات ومنظمات أممية مختصة من أن التطرف المنسوب إلى التيارات والتنظيمات الإسلامية يجد زخما كبيرا ومحاضن متنوعة في الأوساط الشعبية بتونس، لأسباب متعددة، منها بالخصوص فشل سياسات الحكومات المتعاقبة على الحكم منذ 2011 في اقتلاع جذور الإرهاب والقضاء على منابعه ومصادر تمويله ومحاضنه، والعجز عن ردع الأشخاص الذين يروجون للمقاربات الإرهابية والدفاع عن الجرائم المقترفة في هذا المجال، والوقوف موقفا سلبيا، يشحنه نوع من التواطؤ، تجاه مؤسسات إعلامية تحولت إلى منابر لتمجيد الإرهاب.
هذه الكيانات المسترابة التي تريد بنا شرا !
يتذكر التونسيون جيدا التقرير الذي أصدرته منذ سنوات قليلة اللجنة الدولية للتحاليل المالية، والذي كان البرلمان الأوروبي قد اعتمد عليه لحشر بلادنا في القائمة السوداء للدول المعرضة للمخاطر الجسيمة في ما يتعلق بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وأكد هذا التقرير الأممي، بالحجة والبرهان، أن الكثير من الجمعيات والتيارات والحركات التي تنشط في تونس تحت غطاء “خيري” و”سياسي” و”حقوقي” متورطة في شبهات تمويل النشاطات الإرهابية أو تقديم مساعدات لعائلات الإرهابيين الموجودين في بؤر التوتر والدفاع عن مرتكبي الجرائم الإرهابية في المنابر المختلفة، إعلامية كانت أم سياسية ويرلمانية. لم يأت هذا التقرير بالجديد بالنسبة للأخصائيين ومتابعي الشأن العام في البلاد، فقد تكرر التنبيه مرارا من الوضعية المسترابة للنسيج الجمعياتي المنتفخ جدا في بلادنا، والحركات التي تختفي وراء العمل السياسي لغايات ومآرب إرهابية أساسا وهو ما من شأنه أن يمثل خطرا محدقا على الإستقرار والأمن القومي بعد أن تم إختراقه من قبل المتطرفين والمتشددين وأصحاب الأجندات الداخلية والخارجية المشبوهة.
صحيح إننا لسنا “أمة وسط وٱعتدال وتسامح” كما دأبوا على تلقيننا منذ عشرات السنين، وقد أثبتت السنوات العشر الماضية هذه الحقيقة بعد إنفجار ما كان مكبوتا وممنوعا ومعتما عليه لغياب الردع وٱنتشار الفوضى والإنفلات والمزايدات الشعبوية الرخيصة، ولكن لا يعني هذا أنه من حق مثل هذه الجمعيات والحركات وحتى الأحزاب الإفلات من كل مراقبة وتقييم ومتابعة لأعمالها وأنشطتها ومصادر تمويلها ومسالك إنفاقها وما يترتب عن إخلالاتها وتجاوزاتها وجرائمها من تتبعات وردع وعقاب.
إستفاق الشعب ولم تستفق الدولة
إن المشكل الخطير الذي تعاني منه بلادنا في ظل الفوضى والإنفلات وغياب الردع هو التناسل المريب والمستراب للجمعيات ذات العناوين “الخيرية والحقوقية” والحركات والأحزاب ذات اليافطات “الدينية”ؤوأنشطتها المخالفة لمدنية الدولة والقيم الجمهورية، وذلك بإيعاز وتمويل من بلدان عربية وأجنبية ولوبيات ذات أجندات مشبوهة، ومنها بالخصوص تشويه صورة البلاد وعرقلة الإصلاحات وتبييض المال الفاسد وتمويل الإرهاب ونشر الفكر الظلامي والإساءة لعلاقات تونس الخارجية.
كان من المفروض، وقد صدرت التقارير الدولية المحذرة من هذه الكيانات وأنشطتها، أن تتحرك الدولة بمؤسساتها لوضع حد لهذا التسيب وتشديد مراقبة تمويل هذه الجمعيات والحركات والأحزاب وطبيعة أنشطتها الحقيقية، فكم من جمعية “خيرية” إتضح أنها تمول الإرهاب وتروج له، وكم من جمعية “حقوقية” إفتضح أمر تنفيذها لأجندات تخريبية. وكم من حركة ” سياسية” انكشف أمر دفاعها عن الإرهابيين وتبييض جرائمهم. لقد آن الأوان لفتح ملفات هذه الكيانات الخطيرة لصيانة الأمن القومي للبلاد.
إن مأساة بعض “الحقوقجيين” و”الثورجيين” و”الشعبويين” و “الإنتهازيين” وتجار الدين المتعودين على الإنتفاعية الرخيصة والمتدثرين بأردية مشبوهة الأهداف والمقاصد، هي أنهم يعتبرون تصرفاتهم المسترابة على حساب أمن البلاد ومصالح الشعب معبرا آمنا للتموقع على الساحتين الإعلامية والسياسية كدعاة “حريات” و” خير” و”ديمقراطية” في حين أن الحقيقة خلاف ذلك تماما لأن الشعب تفطن لمثل هذه الممارسات وفضح مصادر تمويلها وأعلن جاهزيته الكاملة للتصدي لها، في انتظار أن تتحرك السلط المعنية وتقوم بالتحريات اللازمة وتطبيق القانون دون مكاييل.
* صحفي و كاتب.
شارك رأيك