في هذا المقال التاسع من سلسلة سيرته الذاتية التي تنشرها تباعا أنباء تونس الشاعر سوف عبيد يتحدث عن العلاقة الخاصة التي كانت تجمعه صبيا بأبيه وبالحب الذي كان يجمعهما و يجعل بينهما مودة نادرة ه نفسها التي كانت تربط بين الطفل الجنوبي و أمه التي ما يزال شذاها الطيّبُ يُنعشُ رُوحه…
بقلم سوف عبيد
رغم أن والدي رحمه الله لم يدرس إلا أربع سنوات في التعليم الاِبتدائي إلا أنه كان على قدر كبير من الثقافة بفضل شغفه الشّديد بالمطالعة وكان كثير الاِستشهاد بشعر المتنبّي وعنترة وحاتم الطائيّ والرّصافي وشوقي وذِكر أخبارهم وطرائفهم ناهيك عن الاِستشهاد بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية والسّيرة وأخبار الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين والوقائع التي دارت بين الثوّار التونسيين والجيش الفرنسي في الجنوب بالإضافة إلى أخبار بلدة غمراسن عبر التاريخ وكان كثير الإعجاب بالإمام اِبن عرفة الذي يعتبره مثالا في طلب العلم والاِجتهاد وقد واظب أبي رحمه الله سنوات عديدة على دروس الشيخ الزغواني التي كان يلقيها مساء كل يوم أحد بمسجد حيّ الحجّامين بتونس المدينة وقد رافقتُه أحيانا وبذلك أدركتُ آخر شيوخ الزيتونة الأفذاذ ونهلت من علمه فهو يقرأ الآية ويذكر موضعها وسبب نزولها ويفسرها على منهج القدامى لكنه يستخلص منها العبرة لإصلاح أحوال المجتمع في الختام.
كان والدي رحمه الله مثال المسلم في إيمانه وصَلاته وصيامه وفي أخلاقه وفي عمله ومعاملاته فكان متسامحا كريما باسما حنونا حريصا على صلة أقربائه ومعارفه وكان صبورا متنازلا عن حقّه يسعى للخير والصلاح وعمِل طول حياته على الرّفع من شأن العائلة بالتشجيع على العلم وعلى إصلاح ذات البين وعلى مكارم الأخلاق.
رحم اللّه والدي…
كان من أنصار فريق الترجّي الرياضي ولكنّه ما كان يُعلن ذلك لطفا منه لأنّي كنت من أنصار فريق النادي الإفريقي المنافس اللّدود لفريقه فإذا دارت المقابلة بينهما تراه يذكر محاسن الفريقين ولا يُبدي فرحه إذا اِنتصر فريقه بحضوري.
ومن حُبّه الكبير لي وحرصه الشّديد على صحّتي أنه اِستقدمني إلى العاصمة وأنا في الثالثة من عمري على إثر إصابتي بالرّمد فمكثتُ شهورا طويلة للمعالجة لدى عائلة عمّي في أحد أحياء تونس العتيقة التي أحببتها منذ ذلك العهد فما زالتْ ملامحها عالقة في خيالي إلى اليوم من بائعي الغلال على عربات كانوا يدفعونها أمامهم وهم ينادون على غلال كل فصل بأغانيهم الجميلة إلى شوارع تونس وأنهجها وأزقتّها النظيفة… وكم كان صوت الأذان الشجيّ عذبا وهو يسري بلا مكبّر صوت طبعا…
مهما تحدّثت عن أبي فلن أحيط بخصاله التي تميّزهُ ويُقِرُّ بها كلُّ مَن عرفه عن قُرب أو بُعدٍ فالفضل له في جميع ما اِكتسبتُهُ في حياتي فلقد اِنتشلني من شَظف العيش البدائيّ في أقاصي الجنوب إلى نِعمة الحياة في العاصمة كأنّه أراد أن يُجنّبني الصّعاب والآلام التي لقِيَهَا في طفولته فقد عاش لدى جدّه لأمّه بعيدا عن أبيه المُغترب في تونس العاصمةِ ولمّا بلغ الخامسة أو السّادسة عاش كاليتيم لدى عمّه الذي كفله وكان من الأطفال الأوائل الذين دخلوا المدرسة الابتدائية بغُمراسن فدرس فيها أربع سنواتٍ لكنّه لم يستطع مُواصلة تعليمه بسبب قساوة الظروف إذ أنّه لم يجد أحدا يستخرج له بطاقة الولادة من مدينة تَطَاوين المجاورة حيثُ مركز الإدارة فقصد العاصمة وهو يافعٌ للعمل في دكاكين الفطائر والحلويات التقليدية حتى أضحى بعد سنوات قليلة من أمهر الصنائعيين فيها وكان المُعلّم الأوّل في أكبر محلاتها بباب البحر وبشارع الحريّة حيثُ تتطلب تلك المحلاتُ الإتقانَ والكياسة والنظافة لأنها في الأحياء الأوروبية ولأن مُعظم زبائنها من الجاليات الفرنسية والإيطالية وحتّى الألمانية والأمريكية في فترة الحرب العالمية الثانية وهذا ما جعله يقرأ ويكتب بالفرنسية والإيطالية ويفهم بعض الكلمات العبرية وكان يهوى في شبابه الدرّاجات والأفلام وكرة القدم بالإضافة إلى الفروسية والصّيد وهما من بقايا هوايات الجنوب وكان أبي أيضا يطرب عند سماعه الطبل والمزمار.
رحم الله أبي…
كان عَطوفا رفيقًا بأخويه الأصغَريْن وسَعى إلى أن يُواصلا دراستَهما وظلّ حَفيّا بهما فكانا سَندا له في مَرضه الأخير وعند الشدائد من بعده وكان كثير الاِحترام لأخيه الأكبر يُجلّه ويستشيره في أبسط الأمور وكان بارّا بأختيه اللتين تَرمّلتا بخمسة أطفال لكل منهما فظل لهما نِعمَ الأخ وبمثابة الأب لأبنائهما وكان منزلنا دائم الحركة عامرا بالأقارب وحتّى بالأباعد ليلا نهارا وفي جميع الفصول وعلى مدى السّنين الطّوال فما كان يتبرّمُ أبي ولا يَتجهّمُ بل نراه مُستبشِرًا دائمًا ومُرحّبًا بالجميع…
واحسرتاهُ على تلك الأعوام التي كان الشّمل يجتمع حول أبي!
هنا لابدّ أن أشيد بفضل أمّي التي كان يأخذ منها التّعبُ مأخذا شديدا أحيانا فإذا ما أحسّ منها ذلك شَدّ مِنْ صَبرها وعزمها ببعض الآيات والأحاديث والأشعار وفي الواقع ما كان أبي ليستمرّ على سيرته تلك لولا وقوفُ أمّي إلى جانبه وتحمّلها أعباء المنزل فرحماك يا أمّي.
رَحمَاكِ يا أمّي…
هيفاءُ باسمةٌ رشيقةٌ أنيقةٌ سواء أنتِ في لباس بادية الجنوب أوفي الأزياء التقليدية لنساء العاصمة فحيثما حَللتِ حَل معك الجمال والأنسُ والسّرور …
دائمةُ الاِبتسام والبهجة أنتِ
ما أعظمَك يا أمّي في حنانك على الجميع صِغارا وكبارا سواءً من أسرتك أو من أسرة أبي وحتّى على غيرهم من الأحباب والمعارف.
رحماكِ يا أمَيمةُ…
ما تزال أغانيك على الرّحى وفي الأعراس تبعثُ في وجداني شُجونَ الحنينِ إليكِ
ما يزال شذاكِ الطيّبُ يُنعشُ رُوحي
ما يزال مَذاقُ أناملكِ في عَجين الرّغيف والكُسكسي أشهى ما في الدّنيا وماذا بقيَ لي من الدّنيا بعد رحيلك يا أميمةُ…يامَّا !!
شارك رأيك