في التدوينة المنشورة أسفله القيادي السابق المستقيل من حركة النهضة الإسلامية يعلق على حيثيات العريضة التي أمضاها مائة من قيادات الحركة يرجون فيها من رئيسها راشد الغنوشي الإعلان عن عدم الترشح لولاية جديدة وردود الفعل التي أثارتها كما يعلق عن موقعه اليوم ضمن النقاش الدائر حول مستقبل الديمقراطية في تونس.
بقلم عبد الحميد الجلاصي *
كانت العريضة التي أمضاها مائة من قيادات حركة النهضة يرجون فيها من رئيس الحركة الإعلان عن عدم الترشح لولاية جديدة فرصة لإثارة نقاش أخلاقي وقانوني و سياسي و فكري و تنظيمي و ربما نفسي حتى.
و للحقيقة فإن العريضة ما كانت إلا التعلة التي أثارت النقاش أو السبب المباشر. و لكني كنت أتوقع أن هذا النقاش سيأتي يوما ما، كانت العريضة أو لم تكن.
انخرطت في هذا النقاش مواصلة لانشغال صاحبني منذ سنوات و احتضنته حلقات النقاش الافتراضي النهضوية قبل استقالتي و منابر تونسية و عربية : المغرب و الشروق و الصباح و الضمير و ليدرز العربية و حقائق أون لاين واخر خبر و الجرأة نيوز ومنتدى الشرق والجزيرة نت. وأذكر خاصة سلسلة من أربع مقالات في جريدة “التونسية” أواخر مارس 2016 قبيل المؤتمر العاشر للنهضة (كل هذه المادة متوفرة على منصتي الالكترونية).
وما أقوله معلوم لدي المسؤولين الكبار في النهضة وقد عبرت عنه بوضوح كامل اخر مرة يوم 17جانفي 2020 أياما قليلة قبل الإعلان عن استقالتي في حوار عميق وصريح مع مسؤول كبير في الحركة شرفني بدعوة كريمة.
وأذكر مما قلت له : “نحن نتحدث كرجلي سياسة فنترك الرقائق والوعظ والإرشاد الى مناسبات أخرى.” كما ذكرته من باب النصح أنه ولا شك ذكي ولكن لا يجب أن يستهين بذكاء من يخاطبهم فذلك قد يكون مقتل أهل السياسة.
و بالطبع أحيي أصحاب العريضة و لكن الزاوية التي أنظر بها للمسألة تختلف عن الزاوية التي أنظر منها. هم مناضلون داخل حركة سقفهم أو أسقفهم محكومة بقواعد الانضباط الحزبي و بما يمكن أن يحدث، في أحسن الحالات، من ترتيبات و تسويات.
زاوية نظري مختلفة . النهضة هي حالة من الحالات. وهذه المحطة وفرت مادة مهمة للتفكيك و الاشتغال وخاصة طريقة فهم السياسة. ومن هنا تكتسي رسالة الاستاذ راشد الغنوشي في التعامل مع العريضة مادة مهمة.
ربما يتصور البعض أن تكون هذه المحطة زوبعة في فنجان تنتهي في يومين أو ثلاثة ثم تعود حليمة. من داخل التنظيمات ربما يكون لهذا المنطق ما يبرره.
شخصيا أنا منخرط في مجهود وطني يحول الديموقراطية من مجرد شكليات و شعارات إلى ثقافة و أخلاق و اليات وقوانين. و خاصة تعهدات. السياسة في العمق هي أخلاق بما هي تعاقد. و التعاقد مقدس ديني و مقدس دنيوي. هو نقاش بين سياسة و سياسة و أخلاق و أخلاق. ولذلك فالطريق لا تزال طويلة.
و لكن هذا الانخراط اثار تفاعلات. بالطبع أنا سعيد بالتفاعلات العقلانية التي تتفق أو تختلف مع الرؤية المطروحة.
هؤلاء شركاء في التفكير.غير أن هناك من يتصور إمكانية توظيف ما أقول لتفكيك او إضعاف النهضة.
أبادر إلى القول إنني مقتنع أن الحياة السياسية الحقيقية إنما تقوم على أساس الكيانات المنظمة المستقرة و المتجددة. النهضة حزب كبير لا يجب أن نتساهل في إضعافه و لذلك فنقدي للنهضة أو التيار أو الوسط الإجتماعي أو اليسار الماركسي أو إتحاد الشغل يندرج ضمن الغيرة على ممكنات تتقدم بنا لا يجب ان نفرط فيها.
أما الاشتباك العاطفي و الوجداني الأكثر تعقيدا فهو ما يحرك الكثير من إخوتي في حركة النهضة.
لقد كنت منتبهاً لهذه العلاقة الملتبسة منذ الأيام الأولى للإستقالة ،بل هذه العلاقة هي التي أخرت الإعلان على الإستقالة و قد كتبت بعد نص الإستقالة (وتواصوا بالحق ،وتواصوا بالصبر – 4 مارس) نصا ثانيا لفك هذا الاشتباك بطريقة عقلانية تميز بين القناعات و العلاقات في حدود الممكن.
هناك من يتحدث عن هروبي من السفينة. ما أعرفه عن نفسي سابقا و ربما يعرفه عني من خالطني اني أساهم في بناء السفن و لا أخرقها و لا أهرب. ربما هو خلق جديد.
وآخر يتحدث عن سقوطي ووصولي إلى القاع أو قرب وصولي إليه. و أشكرهم على التنبيه.
وهناك من يتصور الجماعات شأن مغلق يخص أصحاب الدار فيكثر من الحديث عن الغسيل القذر و نشر الأسرار والذهاب إلى إعلام العار. المسالة بسيطة : لن أشخصن المسائل و لن أذكر الأسماء و ليس من عادتي الاقتراب من الأعراض. أما الخيارات فهي ملك مشاع و هي العرضة لإصدار الأحكام عليها فلا ترتكبوا أخطاء كبرى يفرح بكم ولكم الجميع.
و هناك حتى من يهدد : سكر فمك وشد دارك. بصراحة أنزعج من مثل هذا الخطاب و لكني أيضا أبتسم.
وهناك من يثير حصيلة عبد الحميد لما كان في مواقع المسؤولية؛ وهذه مسالة الإجابة عنها سهلة و لا بأس من التذكير بها : أتحمل مسؤولية المهام التي تحملتها منذ سبتمبر 1979 الى الساعة الخامسة من مساء الخامس من مارس 2020 و أنا رغم استقالتي على ذمة أي الية تضعها النهضة لتجميع الشهادات و تقييم الأداء و تحميل المسؤوليات. أنا على الذمة ابتداء من الغد صباحا.
الأكثر مدعاة للضحك إشارة أحد من أطرد من مهامه بطريقة مذلة انه يعرف أشياء عن عبد الحميد.
هذا بالضبط القاع الذي لن استدرج إليه. أحيله فقط إلى ما ذكرته أعلاه و أنبهه اني خرجت من تجربتي الحزبية والحمد لله كما ولدتني أمي و ان الخيال الذي نسب يختا لسي سمير ديلو و معامل آجر لسي علي لعريض وكثيرا من الأملاك لسي عبد اللطيف المكي و سي محمد بن سالم استكثر علي ولو جزيرة في المحيط الهادي. أحيانا أشعر بالغبن بسبب استثنائي من بين أصدقائي من هذه الثروات الافتراضية.
لأني تعلمت أن أحسن ما نفعل مع هذه الدنيا أن نضعها بين أيدينا لا في قلوبنا و أن أقصى درجات التحرر العلاقة بالأشياء (قال الكبير درويش : لا شيء أملكه فيملكني). ولهذه الحالة مزايا كثيرة أنك تستطيع النظر في أعين الجميع دون أن يرف جفنك و أنك تمدح صادقا وتنقد متجردا و خاصة أنك لا تتعب كثيرا عند التصريح بممتلكاتك.
تؤلمني مقايضة استمرار صداقات عميقة بالصمت. ولكني اخترت. وفِي السياسة لا يجب أن نبحث عما يعجب الناس و لا شيء يعوض عدم احترام الانسان لنفسه. فمن أراد أن يكون شريكا في ترشيد الممارسة السياسية و الحزبية مرحبا به و من أراد مناقشة ما قد أطرح من افكار مرحبا به. ومن أراد ان يبحث في النوايا، فرغم هذا الفاصل، مرحبا به ايضا.
* قيادي سابق مستقيل من حركة النهضة.
شارك رأيك