يواصل الشاعر والكاتب سوف عبيد رواية سيرته الذاتية نثرا و شعرا وهو في هذه الحلقة يتذكر زياراته العديدة لبغداد في ظروف صعبة هي الحرب العراقية الإيرانية و أثناء الحصار الدولي بعد مغامرة احتلال الكويت ويروي لقاءاته مع الكتاب و الشعراء العرب الذين كانت بغداد قبلتهم في تلك الفترة أي الثمانينات والتسعينات من القرن الفائت.
بقلم سوف عبيد
لا أظن أن شاعرًا قديما أو معاصرا في العرب أو في العالم نال شهرة وحظوة بين الناس مثلما نالها نزار قباني الذي كان من ضيوف المهرجان الأول للشباب ببغداد سنة 1984 فهو الشاعر الذي تجد دواوينه في كل المكتبات والمعارض وتقرأ حواراته وكتاباته في المجلات والجرائد وتستمع إليه في الإذاعات والتلفزيونات وتتغنّى بكلماته نجاة الصغيرة ويشدُو بها عبد الحليم حافظ وكاظم السّاهر فكلّما حلّ نزار قبّاني أو مرّ إلا وكان الاِهتمام به من طرف الجميع وكثيرة هي باقات الورود التي أهديت إليه أمّا اِلتقاط صورة معه فهي فرصة يجب تصيّدها في كل حين وآن… اللهمّ لا حسد…
كان المهرجان ملتقى كبيرا ضم عشرات الأدباء من شعراء وقصاصين وروائيين ونقاد وصحفيين من الأقطار العربية ومن عدد لا بأس به من أدباء البلدان الأخرى ولكن الطريف حقا هو تعرفي على الأدباء العراقيين الذين يكتبون باللغة السريانية والكردية واطلاعي على بعض دواوينهم ومجلاتهم.
كانت برمجة أيّام المهرجان محكمة التنظيم فقد زرنا إيوان كسرى بالمدائن جنوب بغداد ولي صورة تذكارية بصحبة صديقي الشاعر نورالدين صمود والإعلامي فرج شوشان أمام قصر أنو شروان حيث كان مركز الحكم الفارسي الذي اِنتهى بمعركة القادسية باِنتصار سعد بن أبي وقّاس ومباشرة بعد زيارة ذلك المعلم اِتجه الموكب بنا إلى متحف قادسية صدّام ويتضمّن لوحات كبيرة تصوّر معركة القادسية ولا شكّ أنّ مثل هذه الأعمال الثقافية تندرج ضمن الدّعم النفسي في الحرب ضدّ إيران وما اِستقبالنا من طرف الرئيس صدّام حسين إلا لهذا الهدف.
وهنا لابدّ من ملاحظة أساسية ففي تلك السنوات لم تكن وسائل الاِتصال في العالم مثلما أصبحت عليه بعد السنوات الأولى من مطلع القرن الحادي والعشرين لذلك كنا نرى العراق خاصة من خلال المجلات الأدبية الراقية التي كان يصدرها مثل “فصول” و “الطليعة” و “أقلام” وقد نشرت فيها منذ سنة 1976 بحيث لم نكن نعرف شيئا عن شؤون العراق الداخلية لذلك يمكن اِعتبار هذه الزيارة اِكتشافا للعراق.
تعرفت في هذا المهرجان إلى صديقي الشاعر إبراهيم زيدان الذي كان نِعم الرّفيق والدليل في جولاتي البغدادية وكم كان عارفا بتاريخ المعالم التي زرناها ومنها مقهى أم كلثوم قرب شارع المتنبي المتفرّع عن شارع الرشيد ذلك المقهى الذي يمكنك أن تستمتع فيه على مدى كامل ساعات النهار والليل بأغاني أم كلثوم ولا أنسى أبدا الدعوة الكريمة التي اِستضافني فيها صديقي الشاعر إبراهيم زيدان في بيته وأعدّ لي مأدبة من عدد لا يُحصى ولا يُعدّ من أصناف الأطعمة العراقية حتى أنّ الغرفة ضاقت بالصحون من حولنا فكم تمنيت أن أستقبله في تونس بمثل ما اِستقبلني من لطف وأنس وكرم لعلني أردّ له البعض من جمائله…
ثم توالت زياراتي للعراق بمناسبة مهرجان المربد الشعري الذي كان محفلا كبيرا للشعراء العرب تسنّى لي من خلاله الاِطلاع على آخر ما يكتبون وكانت مشاركتي في مهرجان المربد على مدى دورات عديدة مناسبة للتعريف بقصائدي التي كانت مختلفة مع أغلب القصائد المنبرية السائدة فوجدت نفسي خارج السّرب أحلق مع عدد قليل من الشعراء الذين يطمحون إلى الجديد بحثا عن التميّز والإضافة وأذكر مرة أنني قرأت قصيدة “البرتقالة” وهي من قصار القصائد فنالت الإعجاب والتصفيق الحار خاصة أنني أنشدتها على إثر شاعر أطال في قصيدته العمودية الحماسية.
“البرتقالة”
تقشرين برتقالة المساء
لظفرك شَبَهُ السكين
للدنيا مثل الدم
ناولتك برجا
ناولتني برجا
فتحنا أبراج الجزيرة
وبايعتك أميرة
من الماء
إلى الماء
ذلك هو العراق الذي عرفته فأحببت شعبه الكريم والأبيّ ولا أنسى أبدًا أنّ أوّل تاكسي ركبته من أمام فندق الرّشيد إلى شارع المتنبي قد فرح السائق بي فرحا كبيرا وأعلمني أنني أوّل تونسيّ يلتقيه ويحادثه فأعجب بلغتي العربية وقد كان يظن أن التونسيين لا يحسنونها لغلبة اللغة البربرية والفرنسية على بلدان المغرب العربي وبينما أنا أهمّ بنقده إذ به يقسم بأغلظ الإيمان أن لا يتسلّم منّي”ولا شيء ” ثمّ يضيف يلهجة البغداديين الظريفة : “تِتْدَلّل…من عيوني”. !
ذلك هو العراق تماما مثل تمثال بدر شاكر السيّاب وهو منتصب واقف رغم الرّصاص والشّظايا:
واقفٌ
يداهُ برغم الصّديدِ …يدانِ
تَجنيان بَلحًا
يداهُ في الحديدِ…يدانِ
تُسابحان طيرًا
تقُولان
سلامًا
سلامًا
ستعودُ للشّرق
شمسُهُ الآفلهْ
آخر عهدي بالعراق كان ضمن وقد اِتحاد الكتّاب التونسيين فوصلنا بغداد عبر عَمّان الأردن عن طريق البرّ قكانت رحلة شاقّة بمسافة ألف كيلومتر لأن الحصار كان شديدا على العراق بما في ذلك الخطوط الجويّة وقد حملنا وقتذاك ما اِستطعنا من الكتب الصادرة حديثا وما جمعناه من أدوية وأدوات مدرسية فلاحظنا الحالة اليائسة التي أمسى عليها أغلب الناس في هذا البلد أولئك الذين لقيناهم عامّة أول مرة ـ رغم بداية الحرب مع إيران ـ قي عيش رغد ونهضة عمرانية وعلمية وثقافية واضحة للعيان ولكنّ غياب السياسات الرّشيدة والاِستبداد في السّلطة هو الذي أدّى بالعراق إلى الهاوية…
في إحدى المناسبات واكبتُ مع سي العروسي المطوي في قاعة المؤتمرات الكبرى خطاب الرئيس صدام حسين عندما طلب من أحد مساعديه مَدّه بقذيفة أو عُبوّة من سلاح جديد وظلّ يُراوحها بين يديه في اِعتزاز وتحدّ وزَهْو بينما اِهتزّت القاعة بالهتافات والحماس حينذاك همس لي سي العروسي متأسّفا وقال في أذني: “ما كان عليه أن يكشف هذا السّلاح”.
فكان بعد ذلك على العراق ما كان
وا أسفاه…
شارك رأيك