ليس بالأمر الهين أن يقوم سياسيون متسمون بالرصانة والحنكة من طراز الأساتذة أحمد نجيب الشابي وسلمى اللومي ورضا بلحاج بالإعلان عن تأسيس حزب سياسي وسطي يخلق التوازن المفقود في المشهد الراهن والذهاب بأحلام هذا الشعب إلى كل شبر من أقاليمه ومدنه وقراه وأريافه للخروج من النفق المظلم وإشعال شموع الأمل وإبعاد الإحباط والانكسار عن عقول الأهالي.
بقلم البشير عبيد *
يتواصل الجدل في المشهد السياسي التونسي منذ مدة طويلة حول الضرورة التاريخية لتأسيس حزب سياسي وسطي يستقطب قطاعات واسعة من الشعب والنخب لإحداث التوازن المفقود وكسر ثنائية الصراع المسيطر على المشهد بين قوى الإسلام السياسي بكل تعبيراته (النهضة وائتلاف الكرامة( والتيارات الدستورية الحاملة لمشروع الفكر البورقيبي.
في هذا السياق أعلن السادة أحمد نجيب الشابي رئيس حزب الحركة الديمقراطية وسلمى اللومي رئيسة حزب الأمل ورضا بلحاج القيادي السابق في حزب نداء تونس مع مجموعة من الشخصيات الوطنية المستقلة عن تأسيس تنظيم سياسي وسطي للإسهام بفعالية في البناء الوطني المتسم بالضبابية والتشتت والتشرذم وغياب البرامج الإستراتيجية في كل القطاعات.
الحركة الديمقراطية وإعادة البناء
واضح وجلي أن المشهد السياسي التونسي كان ولازال ينتظر هذا المشروع الطموح لإخراج البلد من عنق الزجاجة ووضع النقاط على الحروف وترميم الكيان الذي يشوبه انكسار كبير وهذا يسمى في العلوم السياسية النقد الذاتي والقيام بالمراجعات المتأنية لإعادة بناء هذا الكيان على أسس واضحة وبرامج بعيدة المدى ومقاربات ذات أبعاد إستراتيجية تقطع مع الشعبوية السائدة.
هنا وجد الأستاذ احمد نجيب الشابي مكانه الطبيعي والمحوري في هذا المشروع السياسي الطموح باعتباره من الوجوه التاريخية للحركة الديمقراطية التقدمية المناهضة للاستبداد والتغول والحكم الفردي المطلق والتي قدمت التضحيات الجسام عبر أجيال متلاحقة.
هذا السياسي المحنك والمتسم بالرصانة والهدوء والواقعية السياسية بإمكانه أن يلعب دورا محوريا ومركزيا في هذا المشروع عبر الاستفادة من رصيده التاريخي وخلق علاقة جديدة بين قوى وسط اليسار (الديمقراطي الاجتماعي( وقوى الليبرالية الاجتماعية الجديدة ويمثلها في هذا السياق رضا بلحاج وسلمى اللومي الأول سليل العائلة اليسارية والثانية الابنة الشرعية للحركة الدستورية ذات المرجعية البورقيبية المؤمنة بالنظام الجمهوري والدفاع عن قيم الحداثة والدولة المدنية.
لا يستطيع الملاحظ وهو يتابع بدقة بالغة محاولا تفكيك البنية الفكرية لهذا المشروع السياسي الطموح إلا أن يشد على أيادي مؤسسيه ومناصريه لأن الواقع سيطرت عليه مفردات التشتت والمتاهة بكل انسياقاتها وتجلياتها والمشهد السياسي في تونس الراهن هيمنت عليه الصراعات الهامشية والزعامتية والنرجسية القاتلة.
إذن تونس في حاجة أكيدة إلى مشروع سياسي بهذه المواصفات والمقاربات المتسمة بالوسطية والاعتدال والبعيدة عن سطوة الايدولوجيا يسارا ويمينا فقوى وسط اليسار الديمقراطي الاجتماعي بإمكانها أن تنحت في الصخرة وتضرب في العمق وتقترب من نبض الشعب الغارق في القتامة وتقطع نهائيا مع الأطروحات اليسارية الكلاسيكية.
ومن الجهة المقابلة حان الوقت لقادة الحركة الدستورية البورقيبية أن تراجع أطروحاتها ومقارباتها وتبتعد عن نهج الليبرالية المتوحشة محاولة التركيز بشكل لافت على النظام الجمهوري والدولة المدنية وقيم التقدم والحداثة والعصرانية والبعد الاجتماعي للدولة.
التاريخ لا يصنعه إلا الشجعان
حين تكون النوايا صادقة والفكر السياسي ينهل من عمق الاستراتيجيا بكل تجلياتها المعرفية سنرى في نهاية المطاف مسيرة موفقة ومفعمة بالأمل والطموح. إن هذا الشعب المثخن بالجراح والحالم بمستقبل مشرق لكل أبنائه على اختلاف الأجيال والجهات والفئات ينتظر مشروعا سياسيا ديمقراطيا واجتماعيا: بوصلته الواقعية والعقلانية وعدم القفز على مطبات الواقع وإكراهات السياسة وتعقيداتها.
ليس بالأمر الهين أن يقوم سياسيون متسمون بالرصانة والحنكة من طراز الأساتذة أحمد نجيب الشابي وسلمى اللومي ورضا بلحاج بالإعلان عن تأسيس حزب سياسي وسطي يخلق التوازن المفقود في المشهد الراهن والذهاب بأحلام هذا الشعب إلى كل شبر من أقاليمه ومدنه وقراه وأريافه للخروج من النفق المظلم وإشعال شموع الأمل وإبعاد الإحباط والانكسار عن عقول الأهالي.
غدا يبدأ اليوم مثلما قال فلاسفة الإغريق القدامى وبإمكان الحناجر أن تصيح في الساحات والشوارع المكتظة بالأنين والجراحات معلنة أن شعب تونس الحرة لا يستطيع إلا أن يكونوا أحرارا وهم في النهاية مواطنون أحرار لا رعايا.
* كاتب و محلل سياسي.
شارك رأيك