في هذه الحلقة الثانية عشر من سيرته الذاتية التي ينشرها تباعا في أنباء تونس الشاعر والكاتب سوف عبيد يتوقف على زياراته لمدينة النور و عاصمة الأنوار باريس على خطى المثقفين المصلحين العرب الذين انبهروا بنور الفكر و الثقافة في الغرب لكنهم لم يفلحوا في إشاعة الأنوار في بلدانهم.
بقلم سُوف عبيد
ـ 1 ـ
هذه المرّة أسافر إلى مدينة النّور ـ أو مدينة الجنّ والملائكة ـ مثلما وصفها طه حسين بدعوة أثيلة من اِبني المقيم في ضاحية جنوب باريس غير بعيد عن نهر السّان حيث يقيم أيضا صديقي الشاعر حمدي الشّريف الطيّب الرّفقة والذي ألتقي به يوميّا لنتجوّل حينا ونجلس حينا آخر خائضين غمار الذكريات والشّعر والتاريخ والأحداث وملاحظين المشاهد العمرانية المتنوعة بما فيها من إتقان ونظام في مختلف نواحي المنطقة وقد اِزّيّنت في أزهى طبيعتها كيف لا ؟ وهي ترفل في أوج أيام الربيع فأينما نظرتَ وسرحتَ ببصرك ألفيتَ الاِخضرار والأزهار.
عرفتُ صديقي حَمدي منذ أكثر من ثلاثين عاما طالبًا جادًّا في معهد فرحات حشاد برادس فكان من وقتذاك مُحبّا للأدب وللثقافة رغم اِختصاصه التّقني وشاءت الأقدار أن يتجدّد الاِتصال بيننا بفضل الأنترنات حتّى اِلتقينا منذ ثلاث سنوات في هذه الضاحية فإذا ذلك الشاب ـ بفضل عزمه وصبره ونباهته ـ قد تمكن من الهجرة ثمّ الاِستقرار في بلاد الإفرنج هو وعائلته في كنف عيشة رغدة لكنه وهو الذي تمكن من التأقلم في البيئة الفرنسية قد ظل مرتبطا بتونس ومنتميا إلى تراثه في جوانبه المُنيرة والإنسانية ممّا جعله في نصوصه الشعرية التي يكتبها بالعربية مُعبّرا بعفوية وصدق عن حنينه لموطنه ومتمسّكا بجذوره فاللغة العربية بالنّسبة إليه هي الخيط السّحري الذي يشدّه إلى ذاته وهو حريص أيضا على أن يظل أبناؤه وبناته منتمين إلى تونس الخضراء… ولكن !
ولكن عندما رافقتُه مع نَجليْه إلى القُنصلية ليستخرج لهما بطاقة الهويّة التونسية رأيتُ صفّا طويلا وقد وقف فيه الصّغير والشاب والشّيخ من الجنسين بل وفيه الرّضيع وحتّى الذي يجلس في كرسيّ العجلات.
يا سبحان الله هل مكتوب على التونسيّ أن يقف مُنتظرا السّاعات الطّوال في الحرّ والقَرّ سواءً في تونس للحصول على تأشيرة الدخول إلى فرنسا أو في فرنسا أمام القنصلية التونسية لاِستخراج مختلف أوراقه الوطنية فلا عزاء للتونسي لأنه غريب مرتين: غريب في وطنه وغريب خارج وطنه…
عندما نُصبح لا نرى تونسيا واحدا يقف منتظرا أمام السّفارات الأجنبية في تونس… وعندما نُُمسي لا نرى تونسيا واحدا يقف منتظرا أمام سفارة أو قنصلية تونسية في بقية بلدان العالم… يوم ذاك يمكن أن نتحدّث عن الكرامة الوطنية.
ـ 2 ـ
في يوم ربيعيّ باذخ كنت أتفسّح في مدينة إفري من ضواحي باريس الجنوبية وقد شدّ اِنتباهي النظام والنظافة والإتقان فقد لاحظت ذلك في جميع ما رأيته ومررت به… ناهيك عن الزهور المنسقة أحسن تنسيق في الساحات والمماشي وحتى في وسط الطرقات وفي النوافذ والشّرفات وما كدت أرفع بصري حتى قابلتني صومعة شاهقة مربعة الشكل على نمط أغلب صوامع بلاد المغرب تبدو حديثة البناء فقطعت الشارع إليها من الممرّ المخصص للمترجّلين بعد أن ضغطت على زرّ العمود فما كانت إلا لحظات حتى اِشتعل الضوء الأخضر وتوقف سيل السيارات فاسحا لي المجال…
يا الله ماهذا الاِحترام وهذا الاِنضباط! هو كذلك هذا المجتمع الذي نشأ منذ أجيال على قيم الحرية وتعادلية الحقّ والواجب فالقانون فوق الجميع والذي لا يطبّقه راضيا ينطبق عليه صاغرا… هنا حرية العقيدة والفكر والمذهب والتعبير والهواية ونمط الحياة يمارسها الجميع بدون اِستثناء فحقّ الاِختلاف وضرورة قبول الآخر واقع معاش بمعنى “لكم دينكم ولي ديني”. فقد مررت بعديد الكنائس ذات المذاهب المختلفة ورأيت بالقرب منها معبدا بوذيا كبيرا وشاهدت معلقات كثيرة فيها دعوات إلى اِجتماعات واِحتفالات متنوعة الملل والنّحل ومن بين تلك المعلقات واحدة لفتت اِنتباهي حقا عندما قرأت فيها أنّ رئيس البلدية يدعو مواطنيه للاِتصال به – عند الحاجة – في مكتبه مرة في الأسبوع مساء كل يوم جمعة من الخامسة إلى السادسة والنصف وقد نشر رقم هاتفه ليكون عند الطلب في خدمة الجميع !
أين نحن من هذه المدنية ؟ شتّان ما بيننا وبين ذويها ! لكَم كتَب السّابقون قبلي عنهم من عهد الطهطاوي واِبن أبي الضياف إلى عهد طه حسين وبيرم التونسي وغيرهم ولكن مازالت مجتمعاتنا المغاربية والعرببة بعيدة عمّا نصبو إليه من حياة كريمة ورقي.
ـ3 ـ
ثمّةَ ملاحظة اِسترعت اِنتباهي فقد شعرت في كثير من المناسبات بشيء من الرّيبة لدى عامة القوم عند مخالطتهم للعرب والمسلمين أو الحديث عنهم في البرامج التلفزيونية وقد أصبح ذلك واضحا ومباشرا بعد العمليات الإرهابية المتوالية في بلدانهم على مدى السنوات الأخيرة تلك العمليات التي لا نعرف حقيقة الواقفين وراءها والخيوط المخفية التي تحركها ولمصلحة أي جهة تقوم بمثل تلك الأعمال الإرهابية التي كان الأبرياء والذين يناصرون القضايا العادلة من ضحاياها فلقد خرجت الملايين أفواجا أفواجا في عواصم عديد البلدان الغربية ومدنها مرات كثيرة مناصرين نضالات الشعوب المستضعَفة ومناهضين لسياسة حكومات تلك البلدان الغربية حيث تمتّع الكثير من العرب والمسلمين المضطهدين في بلدانهم بالحصانة وبكرم الضيافة في حرية واِحترام ولكن لست أدري بأي مقابل وبأيّ ثمن…؟
التاريخ يحدثنا أنّ الحضارة العربية الإسلامية قد سادت وترسّخت في كثير من المناطق بفضل نشر ألوية السلام والإخاء والعدل والصدق والوفاء مع قيم العلم والعمل بين تلك الشّعوب والأمم فلو أنّ الجاليات الوافدة على بلاد الإفرنج جيلا بعد جيل عملت بتلك المبادئ وسخّرت تلك الأموال الطائلة في نشر اللغة والثقافة العربية وكانت مثالا للعمل والنّزاهة والمحبّة والتسامح في تلك المجتمعات الغرببة لتغيّرت نظرتها إلينا ولصرنا قُدوة لها ونموذجا يُحتذى…
تعيش تلك المجتمعات أزمات حضارية متداخلة ممّا جعل بعضَ القوم فيها يبحثون عن الخلاص في الحضارات الشّرقية الأخرى… ولكن مع الأسف نحن لم ننجح في التأثير فيهم من ناحية ولم نُوفّق في الاِستفادة من إنجازاتهم إلا بقدر قليل ثم إننا لم نُفلح إلا في النّسج على منوال الفاسد في تاريخنا والأخذ من الرّديء في حضارتهم لكأنَّ حَوَلا أصاب عُيوننا !
يتبع…
شارك رأيك