قضيّة محتشد الرقاب قضية رأي عام تحوّلت إلى قضيّة دولة، وأنّ اختزال القضيّة برمّتها في حكم جزئي ابتدائيّ مغالطة القصد منها التعمية عن خطورة الجريمة المرتكبة في حقّ أطفال قُصّر انتزعوا من مقاعد دراستهم ومن بين عائلاتهم ليخضعوا إلى دمغجة مكثّفة تقطع علاقتهم بالواقع، وتنتهك أجسادهم باﻻغتصاب والسخرة في اﻷعمال الشاقّة، وتعدّهم للانخراط في اﻹرهاب.
بقلم مختار الخلفاوي *
ما يروّج في هذا الفضاء عن حكم قضائي ببراءة صاحب محتشد الرقاب فاروق الزريبي هو مغالطة القصد منها التلاعب بالرأي العام، ومعاقبة لمن كشف الحقيقة، وتبييض للإرهاب في النهاية.
1- نازلة محتشد الرقاب المسمّى بـ”المدرسة القرآنيّة” لا تُختزل في صاحب المحتشد، وإنّما تشمل المقيمين في المحتشد من “محفّظين” وتلاميذ. المحكمة الابتدائية بمدينة سيدي بوزيد قضت بسجن أحد “المحفّظين” المقيمين في المحتشد بـ 20 عاما، ثمّ بـ 10 أعوام لاغتصابه طفلين قاصريْن في مدرسة ”الرقاب القرآنية“. ووصلت اﻷحكام في شأنه إلى 30 عاما.
وبالتحقيق معه، اعترف المتهم وهو أصيل معتمدية السواسي من ولاية المهدية أنه قام بالأفعال المنسوبة إليه بسبب الكبت الجنسي مضيفا أنه “لم يقم بأية علاقة جنسية مع امرأة طول حياته” وأنّه “تعرّض للاغتصاب في طفولته”، وفق تعبيره.
2- أمّا صاحب المحتشد فاروق الزريبي فيحاكم في ثلاث قضايا:
– قضية اﻻتّجار باﻷشخاص، وكانت إدانة صاحب المحتشد ثابتة في التحقيق اﻻبتدائي، ثمّ قامت دائرة اﻻتّهام بتثبيت التهمة وطلبت إحالته على الدائرة الجنائيّة بمحكمة سيدي بوزيد التي حكمت ابتدائيّا بعدم سماع الدعوى !
– قضيّة ثانية في تبييض اﻷموال مازالت جارية لدى القطب المالي.
– قضية ثالثة في الزواج على غير الصيغ القانونية حكم فيها بثبوت اﻹدانة والسجن سنة، ثم تم الحطّ من العقوبة إلى خمسة أشهر نافذة مع خطية مالية له ولشريكته في الزواج العرفي.
3- يتّضح ممّا سبق أنّ إطلاق سراح صاحب محتشد الرقاب بعد الحكم بعدم سماع الدعوى لفائدته في قضية واحدة هي قضية اﻻتّجار باﻷشخاص هو حكم ابتدائيّ يتمّ استئنافه من النيابة العمومية للدفاع عن مصداقية التحقيق واﻷبحاث في الطور اﻻبتدائيّ ولدى دائرة اﻻتّهام.
4- تعود وقائع قضيّة محتشد الرقاب إلى تاريخ 31 جانفي 2019، حيث كشف برنامج “الحقائق الأربع” على قناة الحوار التونسي الستار عن “مدرسة قرآنية” في منطقة الرقاب بسيدي بوزيد فتحت أبوابها منذ سنة 2012، ورغم قرارات الغلق فإنّها تحدّت الجميع وواصلت العمل في مخالفة صريحة للقانون.
على إثر بثّ التحقيق، أذن وكيل الجمهورية بسيدي بوزيد بإخراج الأطفال من الفضاء الذي كانوا يقيمون فيه. وتنقّلت الوحدات الأمنية المختصة رفقة المندوب العام لحماية الطفولة وأخصّائيين نفسانيّين على عين المكان أين تمّ العثور
على عدد من اﻷطفال (بين 10 و18 سنة) والراشدين (بين 18 و35 سنة)، تبيّن أنهم يُقيمون جميعا بنفس المبيت في ظروف لا تستجيب لأدنى شروط الصحة والنظافة والسلامة.
فريق “الحقائق الأربع” اقتصر دوره على الكشف عن حقيقة المحتشد صورة وصوتا، وهذا من صميم التحقيق الصحفيّ التلفزيونيّ. ثمّ انتهى دور اﻹعلام ليبدأ دور القضاء وهيئاته، والدولة ومؤسّساتها، والمجتمع المدني ومنظّماته.
5- أصدر قاضي اﻷسرة بالمحكمة اﻻبتدائيّة بتونس قرارا يتمّ بمقتضاه إعادة أطفال محتشد الرقاب إلى عائلاتهم بداية من 12 فيفري 2019.
6- بداية من 4 أفريل 2019، تولت وزارة التربية بالتنسيق مع كافة الوزارات المعنية إعادة كل الأطفال الذين انقطعوا عن الدراسة والتحقوا بفضاء الرقاب والذين تتراوح أعمارهم بين 10 و18 سنة إلى المسارات التعليمية والتكوينية.
وشمل هذا اﻹجراء 42 طفلا تم إرجاع 29 منهم الى مقاعد الدراسة وإدماج 13 آخرين بحسب رغبتهم ضمن مسار التكوين المهني في اختصاصات مختلفة.
وتكفلت وزارة التربية بمصاريفهم الدراسية ومعاليم اﻹقامة في المبيتات. وتولّت مع زارة الشؤون اﻻجتماعية ووزارة الصحة متابعة الحالة النفسية والصحّية واﻻجتماعيّة للأطفال من خلال أطبّاء وأخصّائّين نفسانيّين واجتماعيّين.
7- أعلنت رئيسة الهيئة الوطنيّة لمكافحة اﻻتّجار باﻷشخاص روضة العبيدي أنّ أطفال محتشد الرقاب قد عادوا إلى مقاعد الدراسة، وأنّها تتابع الموضوع عن كثب. وأكّدت خبر الحكم اﻷوّليّ بعشرين سنة على مغتصب أطفال بمحتشد الرقاب.
8- في اﻷثناء وبعد استيفاء التحقيقات القضائيّة والماليّة، صدر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية قرار بتاريخ 21 جوان 2019 يقضي بتجميد أموال وموارد اقتصادية تخصّ “الجمعيّة القرآنيّة ابن عمر” بالرقاب من ولاية سيدي بوزيد، وقرار آخر يخصّ ممثّلها القانونيّ فاروق الزريبي الذي تعلّقت به تهمة استغلال فضاء سجّل عديد التجاوزات، ويمثّل مصدر تهديد مباشر على السلامة الماديّة والمعنويّة للأطفال، عبر زرع أفكار التطرّف الديني والتعصّب والكراهيّة.
9- يتّضح ممّا تقدّم أنّ قضيّة محتشد الرقاب قضية رأي عام تحوّلت إلى قضيّة دولة، وأنّ اختزال القضيّة برمّتها في حكم جزئي ابتدائيّ مغالطة القصد منها التعمية عن خطورة الجريمة المرتكبة في حقّ أطفال قُصّر انتزعوا من مقاعد دراستهم ومن بين عائلاتهم ليخضعوا إلى دمغجة مكثّفة تقطع علاقتهم بالواقع، وتنتهك أجسادهم باﻻغتصاب والسخرة في اﻷعمال الشاقّة، وتعدّهم للانخراط في اﻹرهاب.
10- إنّ استئناف أعمال الشيطنة تجاه اﻹعلام عامّة، وتجاه حمزة البلومي وفريق برنامج “الحقائق اﻷربع” على وجه الخصوص بمناسبة صدور الحكم اﻻبتدائي في قضية اﻻتّجار باﻷشخاص لفائدة صاحب محتشد الرقاب هو استهداف لحلقة “يسهل” قذفها ممّن هبّ ودبّ بينما محتشد الرقاب كما أسلفنا هي قضيّة حكم في بعض حيثيّاتها القضاء بمختلف درجاته وما يزال، وأكّدتها الدولة بأجهزتها الرسمية، وأثبتت فصولها هيئات عمومية مستقلّة ومنظّمات حقوقيّة من المجتمع المدنيّ.
كان تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي قد أسهم هو بدوره في الجدل الدائر على محتشد الرقاب. بعد نحو أسبوع من الكشف عن محتشد الجريمة، أصدر بيانا حمل عنوان ”الحرب على الإسلام في تونس والجزائر… إلى متى السكوت“. أكّد بيان تنظيم القاعدة حقيقة تلك “المدرسة، وما تدبّره بليل جمعيّات مشبوهة، وأصوات مريبة تحترف تلميع الجريمة وتبييض اﻹرهاب.
* صحفي و محلل سياسي.
شارك رأيك