خيمت العتمة بدلالاتها اللاأخلاقية على الساحتين السياسية والإعلامية وٱنحدر الحوار إلى القاع وسقطت الممارسات والسلوكيات في دهاليز الحضيض.
بقلم مصطفى عطية
ما زلت أتذكر قولة بليغة ومعبرة للمفكر والسياسي الكبير الحبيب بو لعراس، رحمه الله، أجاب بها عن سؤال طرحته عليه في أحد لقاءاتنا المتعددة، بعد الرابع عشر من جانفي 2011، ويتعلق برأيه حول ما يحدث في الساحة، قال دون تردد : “ما يحدث ليس ممارسات سياسية وإعلامية وإنما هي ضرب سافل من ضروب قلة حياء!”. أجل لقد تعددت مظاهر الإنحدار في كل الميادين، والشعب يتابع كرنفال الوضاعة والرداءة والإستهتار وقلة الحياء بدهشة وٱستغراب وٱستياء.
كرنفال الوضاعة وقلة الحياء!
دأب العديد من المشعوذين السياسيين الذين تسللوا إلى مجلس نواب الشعب عن طريق نظام إنتخابي أعرج ومشوه، والكثير من المرتزقة وباعة ارداءة الذين تموقعوا في المشهد الإعلامي على ركوب سروج “العفة” و”النظافة” و”الوطنية” وهم أبعد ما يكون عن امتلاك مثل هذه الصفات، وقد أبدوا من الإنحدار اللغوي والوضاعة السلوكية والإفلاس المعرفي ما أفقدهم الحد الأدنى من المصداقية لدى الرأي العام، كنا نعتقد، وهما، أن الأمر لا يتجاوز حفنة من قليلي الأدب وعديمي الحياء، ولكننا إكتشفنا، مع مرور الأيام، انهم يمثلون “مجموعة ضغط عشوائي” كبيرة في هذه الطبقة السياسية وتلك الإعلامية التين جاءت بهما رياح الرداءة، وكنا نعتقد، أيضا، ان بقاءهم في الساحة لن يطول ولكنهم تسمروا فيها.
يحدث كل هذا في ظل عشر سنوات من الفوضى والإنفلات والتذبذب والإرتباك وانهيار هيبة الدولة ومؤسساتها دون أن تظهر في الأفق مؤشرات جدية لقرب إنتهاء هذا الكرنفال التراجيدي-كوميدي، المشحون بكل أنواع الرداءة، والذي حول العمل والإعلامي إلى عهر ودعارة !
يدعون مقاومة الفساد ويأتون بأشنع منه
كان التونسيون يتندرون، في ما مضى من الزمان، بما يحدث أحيانا من مهازل في بعض البلدان القريبة منا حتى إكتشفوا فجأة ان ساحتنا السياسية والإعلامية الموبوءة بالإفلاس الفكري والأخلاقي والمعرفي، تزخر بالغرائب والغرائبيين وبالفضائح والفضائحيين مما يؤكد، بوضوح، وجود خلل وظيفي خطير في هذه المنظومة الغارقة في الأوحال.
لن أتحدث أكثر من اللزوم عن المشاحنات والملاسنات والسب والشتم والقذف والضرب تحت الحزام والتشابك بالأيدي، ولن أتعرض إلى المشعوذين الذين دأبوا في كل مناسبة على كشف ما يختزنونه من لؤم وقذارة ولكني سأتوفف هذه المرة عند هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم أوصياء على مصالح البلاد والعباد وهم أول منتهكيها، ويدعون مقاومة الفساد ويأتون ما هو أشنع منه، لو حدث هذا الأمر في أي دولة أخرى تحترم نفسها ولها هيبة لفتحت السلط تحقيقات في ما جرى ويجري، ولحددت المسؤوليات بدقة، فهذا يتهم وذاك ينفي في سوق مفتوحة على كل المزايدات دون تدخل رادع.
تنامى الحنين للعهد السابق!
يتساءل الكثير من الباحثين في شؤون المجتمعات وفي أسباب وتداعيات التحولات التي تغير مساراتها، عن الدواعي التي تجعل أغلب الشعوب التي فجرت ثورات أو انتفاضات تحن، مع مدة قصيرة، إلى الأنظمة التي ثارت عليها وأسقطتها؟ وقد أجاب المفكر الديمقراطي الراحل وأول رئيس منتخب لجمهورية تشيكيا بعد سقوط النظام الشيوعي، فاكلاف هافال، عن هذا السؤال بواقعية وموضوعية، دون أن يتهم “أزلام” النظام السابق بمحاولة “تفجير ثورة مضادة” كما يدعي الجماعة في بلادنا، وقال : السبب هو أن راكبي سروج الثورة عادة ما “يجنحون إلى الرفع من سقف الوعود إلى أعلى مستوى ممكن، وعندما يصدمهم الواقع يجدون أنفسهم بلا مصداقية تجاه شعوبهم” !
تذكرت هذا القول الصريح والعديد من فئات شعبنا أصبحت تترحم على النظام السابق بعد أن طغت مظاهر البؤس والألم والحيرة والضياع على حياة الناس، وبدا جليا وواضحا أن الأزمات عصفت بهم، وٱنسداد الأفق أحبطهم، وعجز السياسيين عن إيقاف عجلة الإنحدار دمر آخر معاقل الأمل في قلوبهم. فأينما تمر لا تلاقي إلا الوجوه العابسة والمكفهرة التي نهشتها المتاعب، وكلما تطرقت إلى مسألة من المسائل المطروحة إلا وكان اليأس عنوان كل حوار وجدال ونقاش!
كيف يفقد شعب بهجته بهذه السرعة وبشكل يكاد يكون جماعيا وعاما ويحن إلى النظام السابق الذي أسقطه بعد اتهامه بالعسف والظلم والفساد؟ السؤال لن يجيب عنه أخصائيو علم النفس والإجتماع الذين طفوا كالفقاقيع بعد الرابع عشر من جانفي 2011 وٱحتلوا أماكن قارة في بلاتوهات الإفلاس الفكري والمعرفي والإثارة الرخيصة لأنهم جزء من كآبة الشعب التونسي، ولا السياسيون الذين أرغموا هذا الشعب المنكوب على النفور من السياسة، وأغرقوه في الوعود الزائفة وٱحترفوا الضحك على ذقنه، ولا أيضا الإعلاميون الذين مرغوه في أوحال الرداءة، فالمواطن التونسي العادي هو الوحيد القادر على تقديم إجابة مقنعة عن سبب فقدانه لبهجته وٱبتسامته وسقوطه في ظلمات الكآبة، وعن حنينه المتنامي للنظام السابق.
عندما تتجول في الأسواق العامة والمساحات التجارية وملاعب الكرة وأنهج وأزقة المدن والقرى وتجلس في المقاهي والحدائق وتستمع لما يردده المواطنون، تجد الإجابة على كل الأفواه، تصحبها زفرات وآهات محمومة.
لقد عم الإحباط جميع الناس، وليس الحرية المنفلتة والصراعات والمزايدات التي تذكي نيرانها وسائل إعلام الإثارة، ولا المواجهات الفوضوية المشحونة بمنسوب كبير من قلة الأدب والحياء، ولا مهازل وفضائح بعض السياسيين التي أصبحت مادة للتندر والإستهزاء، هي التي ستعيد للتونسيين إبتسامتهم المفقودة وتنسيهم في النظام السابق.
* كاتب و صحفي.
شارك رأيك