الرئيسية » سيرة ذاتية ـ القطار الذي فات (المقال الرابع عشر) : الرّصاصة الطائشة

سيرة ذاتية ـ القطار الذي فات (المقال الرابع عشر) : الرّصاصة الطائشة

في هذا المقال الجديد من سلسلة سيرته الذاتية الشاعر سوف عبيد يستذكر الفترة التي قضاها في الخدمة العسكرية و السهولة التي انسجم بها مع ضرورات الحياة العسكرية.

بقلم سُوف عبيد‎

1 ـ
بعدما تخرّجتُ من كلية الآداب بتونس في جوان 1976 تقدّمتُ مع بعض الأصدقاء إلى الخدمة العسكرية بثكنة التّجنيد قرب باب سَعدون ومنها اِنتقلنا في عَربة الجيش إلى الأكاديمية العسكرية بجهة فندق الجديد حيث تدرّبنا مدّة أربعة أشهر وتخرّجنا ضباطا برتبة مُلازم… لقد اِنسجمتُ بسهولة مع ضرورات الحياة العسكرية باِعتبارها فترة لن تستمّر طويلا.

ـ 2 ـ

كانت تجربة مفيدة وثريّة من خلال تدريبنا على مختلف الأسلحة وتعرّفنا على فنيّات القيادة وبفضل الدّروس النظرية والتطبيقية التي قدّمها لنا المختصّون فقد كنّا محلّ رعاية مركّزة، ومن حفظ الله ولطفه بي أنّني نجوت من رصاصة طائشة كادت تصيبني في صدري عندما كنّا واقفين في الصفّ أمام الأهداف نتدرّب على الرّمي بالمسدّس إذ بصديقي الواقف إلى جانبي يُوجّه مسدّسه نحوي بَدل أن يُنزله عموديّا في اِتجاه الهدف وليس يدري كيف اِنطلقت الرصاصة فأصابت ـ والحمد لله ـ مُقدّمَةَ حذائي فحسب، حينها قال لي الضّابط المباشر : لا تَخفْ فالرّصاصة التي تقتُل تُصيب قبل أن تُسمع !

في أوائل سنة 1977 وبعد التّدريب المُركّز والسّريع نِلت نجمة ضابطٍ ملازم وتوجّهتُ إلى القاعدة الجويّة ببنزرت حيث اِستقبلني آمرُ جيش الطيران بترحاب لم أكن أتوقّعه فقد تقدّم نحوي من مكتبه بعد ما حيّيته تحية اِنضباط واِحترام ودعاني إلى الجلوس في الصالون مُبديا اِستبشاره بتعزيز سلك ضبّاطه بمتخرّج من كلية الآداب ليكلفه بتدريس المواد الثقافيّة في المدارس العسكريّة المختصّة في جيش الطيران وبمساعدة بقيّة الضبّاط في التدريب عند الاِقتضاء.

ـ 3 ـ

في مساء ذلك اليوم الشتائيّ خرجتُ من القاعدة الجويّة بزيّ الضبّاط الرسميّ والنّجمتان تلمعان على كتفيّ وقَصدت وسط مدينة بنزرت التي زرتُها من قبلُ برفقة والدي رحمه الله سنة 1963 بمناسبة الاِحتفال بجلاء آخر جندي فرنسي عن بنزرت فجالت في خاطري بعض ذكريات ذلك اليوم المشهود عندما رفعني أبي على كتفيه بين الحشود لأشاهد من قريب موكب الزعماء بورقيبة وعبد الناصر وأحمد بن بَلّة ومعهم وليّ العهد حسن الرضا الليبيّ، إنّها مناسبة فريدة عبّرت عن الوشائج العميقة بين بلدان المغرب من ناحية وبينها وبين بلدان المشرق من ناحية أخرى ولكنّها مناسبة تاريخية سُرعان ما جرفتها الِاختلافات التي ظلت متواصلة حتّى إن هدأت حينا سُرعان ما تَشُبّ من جديد لتُهدَرَ الطاقاتُ العربية الكبيرة وتُداسَ الشّعوب تحت أحذية المستبدّين بالحكم الفرديّ في هذا البلد العربيّ أو ذاك.

كانت فترةُ الجنديّة التي قضيتها في بنزرت مُهمّة وثريّة بالتجارب خاصة من الناحية الإنسانية فقد وقفتُ على كثير من النماذج النفسية والسلوكية التي شاءت الأقدار أن تجتمع في تلك القاعدة وقد ضمّت عسكريين من مختلف الرّتب والاِختصاصات والأعمار والمستويات الاِجتماعية ومن شتّى المدن والأرياف والجهات التونسية.

ـ 4 ـ
من طرائف الوقائع التي عشتُها أنّه بمناسبة ذكرى الجلاء عن بنزرت اِنتظمتْ مسابقات رياضية بين مختلف الجيوش وبما أنّي كنتُ أصغر الضبّاط فقد أجمعُوا على أن أتقدّم إلى مباراة الملاكمة على أن يشارك مَن يريد مِن الضبّاط الآخرين في بقية الألعاب فما كان من ذلك الملازم إلا الموافقةُ رغم علمه بما ينتظره من منافسه القدير ولكنْ ـ مُكرهٌ أخاك ولا بطل ـ فلا تَسل عمّا ناله من خصمه الذي كان من مفتولي عضلات جيش البحر إذِ اِنهال عليه بلكمات كأنّها المطارق عازمًا على إسقاطه بالضّربة القاضية من الجولة الأولى لكنّ ملازمنا عَرف كيف يتصدّى له ويصمد، مرّة بمراوغة رأسه يمنةً ويسرة ومرّة بسرعة تنقّله ممّا جعل خصمه يَفقُد تركيزه في تسديد لكماته فبدَا عليه الغضبُ خاصّة عندما يُحالف الحظُّ الملازمَ في النّيل منهُ، وكان الاِنتصار من نصيب الملاكم البحريّ طبعا !

المهمُّ… أنّ الملازمَ نجا بأخفّ الأضرار ومن الضّربة القاضية على كل حال !

يتبع.

مقالات سابقة من نفس السلسلة :

شارك رأيك

Your email address will not be published.