إهداء: إلى كامل الإطار الطبّي وشبه الطبّي والإداري والعاملات والعمّال بالمستشفى العسكري عاّمة، وبقسم الأمراض الصدرّية والحساسيّة خاصّة، كلّ الحبّ والتقدير لهم جميعا… ولكافّة الصديقات والأصدقاء الآخرين من هذا القطاع النبيل الذين وجدناهم عند الشدّة. إنّ وجعي عليكم، وأنا ألمس ما لديكم من كفاءة عالية، أنّ الدولة ترتكب جريمة نكراء حين تدفع بكم وبزملائكم وزميلاتكم في المستشفيات العمومية الأخرى إمّا إلى القطاع الخاصّ حتى يُحرم الفقراءُ والمحتاجون من خدماتكم الثمينة وإمّا إلى الهجرة لكي يُحرم منكم ومن كفاءتكم وطنٌ بأكمله…
بقلم حمه الهمامي
“أناديكم،
أشدّ على أياديكمْ،
أبوس الأرضَ تحت نعاِلكُم
وأقولُ أَفْدِيكُمْ…
وأهديكم ضياءَ عينِي…
ودفئَ القلب أعطيكُمْ
فمأساتي التي أحْيَا،
نصيبِي منْ مآسيكُمْ…”
رفيقاتي، رفاقي،
صديقاتي، أصدقائي،
حبيبات راضية،
أحبّاءها،
تحية وبعدُ،
فقد خيّرت ألّا أعكّر صفوكم في مثل هذا الوقت الصّعب، وفضّلت أن أتحمّل وحدي الصّدمة في انتظار ما ستؤول إليه الأمور. وكنت كلّما هاتفني/هاتفتني أحدكم/إحداكنّ ليسأل/تسأل عن أحوال راضية أجبته/أجبتها بأنّها متعبة ولكنها على العموم بخير. واليوم وقد انجلى الكابوس وبدأت راضية تتعافى، دعوني أحدثكم/أحدّثكنّ عمّا جرى خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، فمن حقكم/حقكن وأنتم/أنتن الذين/اللواتي تحبّون/تحببن راضية أن تطّلعوا على الحكاية كاملة… على الأقل لتعيشوا/تعشن معي ومع عائلتي الفرحة بعد أن جنّبتكم/جنبتكنّ الكابوس وعذابات الانتظار… فتلك نظرتي إلى الحياة، لا بدّ من تقليص دائرة الألم العام وتوسيع دائرة الفرح خاصّة حين يكون النكد حاضرا في حياة الناس أكثر من اللّزوم كما هو الحال في واقعنا الحالي البائس.
آهْ… لقد حلّ المرض عند راضية من جديد. الفيروس اللعين زارها. لم ندر كيف تسرّب إليها ومتى؟. كنا نعتقد أننا نحميها منه. لكنّ الغدّار، اللعين داهمها. أراد أن يفتك بها، مستغلا مناعتها الهشة جرّاء الأدوية التي تتناولها. قصَفَ بسرعة هائلة أكثر من سبعين بالمائة من رئتيها. “السكانير” الذي عجّل الأطبّاء بطلبه يوم الأربعاء 7 أكتبوبر/تشرين، كان مرعبا ومفزعا. البياض كاد أن يعمّ رئتي العزيزة. وهو ما يعني الاقتراب من الكارثة. نقلناها فورًا، بأمر من الأطباء وبالتنسيق بينهم، إلى قسم الأمراض الصدرية والحساسية بالمستشفى العسكري. علمت أنهم أعدّوا لها في البداية سريرا في قسم الإنعاش. لكن لمّا وصلنا بعزيزتنا إلى المستشفى لاحظ الأطباء فارقا بين صورة “السكانير” الكارثية، وهي حقيقة، وبين حالة راضية السريرية (l’état clinique) المطمئنة شيئا ما. راضية وصلت إلى المستشفى واقفة على قدميها. مرفوعة الرأس، كعادتها… تتنفّس. وهو ما يعني أنّها تقاوم وتتشبّث بالحياة.
رافقنا راضية مباشرة إلى الغرفة رقم 5 وهي من الغرف المخصصة لمرضى الكوفيد 19. الغريب أن الاختبار الذي أجرته قبل أيام عن الكوفيد كانت نتيجته سلبية وهو ما قاد إلى الاعتقاد بأنها تشكو من التهاب القصبات (bronchite). لكن “السكانير” أظهر غير ذلك، وهو، طبيا، أصدق من التحليل وأدقّ منه. لقد قرّر الأطباء أنّ الفيروس اللعين، الغدّار هو الذي هجم على راضية. وبدأ، من تلك اللحظة، الكابوس. وبدأ معه الصّراع بين الحياة والموت. عشنا الأيّام الثلاثة الأولى، الحاسمة والمحدّدة، نسير على خيط رفيع، لا نعرف إلى أيّ اتجاه ستميل الكفّة… ولا كيف ستكون الخاتمة. لا نعرف إلى أي مدى سيصمد جسد راضية المنهك أصلا نتيجة المرض، ولا من سينتصر على الآخر: إرادة راضية ومعها إرادة العلم التي يُجسّدها إطارٌ طبّي من أكفأ ما عندنا في هذا الوطن، أم إرادة الفيروس العمياء، وقد أخذ بعدُ أسبقية كبيرة على راضية وعلى الأطباء. من حسن حظي أن الإطار الطبّي أذن لي، رغم ما في الأمر من مجازفة ومن مسؤولية، بأن أرافق راضية في غرفتها طوال الليل والنهار لأخدمها. قلت مجازفة ومسؤولية لأن الفيروس لم يصبني، وخطر العدوى قائم والحال أنني أقيم في جناح خاص بالكوفيد 19.
تجاوزت راضية الأيّام الثلاثة الأولى الصعبة. ظلت حالتها مستقرة ولم تتعكّر. موازين القوى بدأت تميل لغير صالح الفيروس. كانت راضية خلال كل هذا الوقت مُمدّدة على فراشها، صامتة، هادئة، وقورة، تنفّذ ما يطلبه الأطباء والممرضات والممرضون، تُجْهِدُ نفسها أحيانا لإطلاق ابتسامة وكأنها كانت على يقين بأنها ستنتصر على مهاجمها اللعين، الغدّار. أمّا أنا فلم أقدر، خاصة الأيام الأولى، على أن أغمض عيني خوفا من أن يختطفها الفيروس منّي على حين غفلة. كنت أريد أن أعيش معها كلّ شيء، وأحضر على كلّ شيء، حتّى لا أفاجأ بأيّ شيء… كانت زيارة الأطباء والممرضين/الممرضات قصيرة لإجراء فحص أو تسديد دواء. خارج ذلك كنت مرافقها الدائم. أراقب أنفاسها، خاصة في الليل، نفسا، نفسا. أحرص على ألا تتخلّص بحركة عفوية من يدها من أنبوب الأوكسيجين. أمرّر يدي على جبينها ورقبتها وصدرها وبطنها لأتحسّس درجة حرارة جسمها. أصبحت لا أثق حتى بمقياس الحرارة… كنت أريد أن أتبيّن كل شيء بحواسّي أنا.
لم أقدر على الأكل أيضا رغم أنّ الجوع كان ينهشني باستمرار. كانت سعادتي القصوى تكمن في رؤية راضية تأكل كلّ لقمة أضعها في فمها. كانت والدتي تقول لنا، ونحن صغار نتصنّع المرض، أحيانا، للحصول على “امتياز” لا يتجاوز بيضة أو كعبة حلوى، “المريض ما ياكلش” في إشارة إلى أنّ “شاهيتنا” المفتوحة للأكل كانت تفنّد دعاوينا وتَشِي بأننا في صحّة جيدة. كنت كل مرة أذكّر راضية بكلام “حماتها” فتبتسم، وتحاول أن تضحك فلا تقدر، ولكن كلما سألتها، من باب الدعابة، من أنا؟ تجيبني “حمّه ولد “خضراء”(وهو اسم والدتي) التي جمعتها بها علاقة حبّ وتقدير مثاليّة. كانت “خضراء” مبهورة بقوة راضية وصبرها وشجاعتها وثقتها بنفسها وتحمّلها المسؤولية وتفاؤلها الدائم والمتجدّد… كانت راضية كلما قابلت “خضراء”، أيّام المحن المتلاحقة في زمن الدكتاتورية، تقول لها وهي تطلق قهقهة: “غالْبِينهم غالْبِينهم أمّي خضراء وحمّه خارج، خارج من الحبس”.
لذلك وعملا بقول أمّي كنت أرى في تحسّن شاهية راضية وقبولها الأكل وعدم إحساسها بالغثيان علامة مشجّعة، خاصة أنّ الإطار الطبّي كان يوصيني يوميا بأهمية الغذاء في مواجهة الفيروس، لذلك كنت “أدسّ” في فمها غالبية ما يقدّم إلينا أو يأتينا من أكل من خارج المستشفى. وكانت هي تستجيبُ بلا تردّد… كان يُسْعِدها أن تأكل من يدي كطفل صغير. وقد لازمت، كما طلب منّي الأطبّاء، ارتداء “الكمّامة” ليلا نهارا. وهنا، في الطابق التاسع من المستشفى العسكري، تعلّمت، بعد أن بدأت أطمئنّ على صحّة راضية، النّوم “بالكمّامة”. لم يكن من السّهل أن أنام “مكمّمًا” لما يحدثه ذلك من ضيق في التنفس وأوجاع في الرّأس. ولكنّ ملازمة “الكمّامة” حتى خلال النوم، كانت، إلى جانب استعمال المعقّمات في كل حركة أقوم بها سواء لتطهير يديّا وأدباشي وحتّى شعري أو لتطهير أرضيّة الغرفة مرّات ومرّات في اليوم، شرط البقاء إلى جانب راضية لأخدمها.
وبطبيعة الحال من أين لي أن أرفض شرطا من شروط الأطبّاء، كي أرافق راضية؟ وهل يمكن أن يجول في خاطري أصلا أن أتركها وحدها في مواجهة المرض وهي التي لم تتركني لحظة وحدي طوال مسيرتنا المشتركة بما فيها من مصادمات واعتداءات وأتعاب وآلام؟ وحتى لو كلّفتني مرافقتها الإصابة بالفيروس أو حتّى الموت، أفلا تستحقّ هذه الإنسانة العجيبة، العظيمة ببساطتها وصدقها وعفويّتها وعطائها وشراستها في الدفاع عن الحقّ ومقاومة الظلم، أن أُضَحّي من أجلها؟ ألم أصرّح ذات يوم من أيّام 2011 في إحدى القنوات الخاصة بأنّني لا أريد الموت بعدها حتّى لا أتحمّل هوْلَ فراقها؟ أموت إن لزِمَ الأمر لتحيا هي… وهل للحبّ من معنى غير هذا المعنى؟ أليس الحبّ هو العمق الإنساني للنضال الذي نخوضه يوميا من أجل غد أفضل لشعبنا وللبشرية جمعاء؟ أليس الحب هو ميزة الثوريين/الثوريات في مواجهة قوى الشرّ التي لا تترك لا دينا ولا جنسا ولا قومية ولا ثقافة ولا لونا أو عرقا إلا وتستغلّه لبثّ الحقد والكراهية والتفرقة بين أبناء/بنات الشعب الواحد والجنس الإنساني الواحد لتسهيل السيطرة عليهم وتأبيدها؟ الحبّ عندنا عقيدة، لأننا لا نرى في الوجود ما هو أعظم منه، لأنه النّبع الصّافي الذي لا ينضب حتى في زمن القحط، وهو الذي سيفرض نفسه، طال الزمان أو قصر، قانونا أوحد تستظلّ به البشرية جمعاء… البشريّة المتحرّرة نهائيّا من كل استلاب أيديولوجي واقتصادي وسياسي وثقافي مهما كانت الأغلفة، لتعيش في النهاية بلا حروب ولا كراهية ولا قتل ولا مجازر ولا همجيّة…لتعيش في النّهاية علاقات ملؤها المحبّة والأخوّة والسّلم والتضامن. (آهِ… ما أحوجنا إلى السّلم في منطقة منكوبة لا تتوقف فيها الحروب والمجازر…)
مرة أخرى وجدّت نفسي مُمزَّقا بين مرض راضية ومرض الوطن. راضية التي التصقت حياتها ونضالها منذ شبابها بهموم الوطن ولا شيء غير هموم الوطن، حاول الفيروس أن يَفْتِكَ بها وقَصَفَ أكثر من ثُلُثَيْ رئتيها اللّتين يهِبانِها الحياة، والوطن الذي احتضن راضية وأصبح حاضرا في كل خطوة من خطواتها، فلا يكاد المرء يقف عند حادث عرفته تونس خلال العقود الأربعة الأخيرة دون أن يذكر فيه اسم راضية فاعلة مباشرة أو محامية أو حقوقية ناهيك أنها كانت يوم 14 جانفي 2011 أول من توجه إلى وزارة الداخلية لتصرخ في وجه الظالم: “ارحلْ”…هذا الوطن تفتك به هو أيضا فيروسات كثيرة، تهاجمه من كل جانب، تحاول أن تكبت أنفاسه، أن تشلّ حركته، تنهشه بلا هوادة طورا باسم الدين وطورا باسم الحرية وطورا ثالثا باسم “المصلحة العليا”، وهو يتلوّى وجعا ويقاوم. لذلك تجدني كلما فكرت في راضية استحضرت الوطن. والعكس بالعكس.
“امرأة بحجم وطن”، هكذا عنونت إحدى المناضلات مقالا كتبته عن راضية النّصراوي يوم 13 أوت 2020 بمناسبة العيد الوطني للمرأة. إنّ الجمع بين المرأة/الأم والوطن/الأرض ظاهرة طبعت الأدب العالمي في القرن العشرين خاصة، ناهيك أن القارئ حين يطّلع على النص الماثل أمامه تلتبس عليه الأمور إلى درجة يعسر له فيها الفصل بين الحديث عن الأم/الأنثى والحديث عن الوطن فكأنهما يسيران في الخطّ نفسه بحثا عن انعتاقهما النهائي من القيود المضروبة عليهما، الأولى بوصفها أنثى والثاني أرضًا ومجتمعًا. فمن منّا لا يتذكر، رائعة “الأم” للكاتب الروسي/السوفياتي “مكسيم غوركي” (1907)،الأم التي تتماهى/تتّحد، في النهاية، مع الوطن، روسيا، الناهضة في وجه الاستبداد القيصري؟ ومن منّا لا يتذكر مسرحية “الأم شجاعة وأبناؤها” (Mère courage et ses enfants) للشاعر والمسرحي الألماني برتولات بريخت (1939) هذه الأم التي هي بحجم الإنسانية جمعاء في رفض الحرب وأهوالها في ظرف كانت فيه البشرية على أبواب مجزرة كونية جديدة على أيدي الفاشست والنازيين. ومن منّا لم ترُقْهُ رواية “أمّ سعد” للكاتب الفلسطيني، الشّهيد، غسّان كنفاني، “أم سعد” الهوية والوطن والانتماء… ومن منّا لم يأخذه الحنين إلى خبز أمّه وقهوة أمّه ولمسة أمّه وهو يقرأ رائعة درويش الشعريّة “أحنّ إلى خبز أمي”… هذه الأم التي تمثل، مثلها مثل الوطن، الملاذ الأبدي…
راضية مريضة والوطن مريض. معركتان من أجل النهوض من جديد… معركتان من أجل الحياة. واليوم ها إنّ راضية، تتعافى تدريجيّا… ها إنّها تعود من بعيد… بعيد… ها إنّها تنهض من فراش المرض منتصرة على الفيروس اللّعين، الغادر الذي كاد أن يَقْطَعَ أنفاسها ويُلْقِي بها في ظلمات القبْر… إنّه انتصار آخر لإرادتها وإبائها. أفلا يحقّ لي القول إنّ الوطن سيتعافى تدريجيّا هو أيضا وسينهض منتصرا على الفيروسات التي تعبث بقدره… لا شكّ في ذلك، ففي الوطن روح لا تموت وشعلة لا تنطفئ… “حذار فتحت الرماد اللهيب”، “ومن يبذر الشوك يجن الجراح”… إنّ المسألة مسألةُ وقت… وهي بالنسبة إلى الشعوب مسألةُ وعْيٍ وتنظيمٍ أيضا، فما أنِ تهُبَّ مُنْشِدةً الحياة، حتى تستجيب لها الأقدار بلا تردّد ولا تأخير…”كذلِكَ قالت ليَ الكائناتْ…وحدّثنِي روحُها المُسْتَتِرْ…”
أيّها العالم…
إن راضية تتعافى من الفيروس
إنّ راضية تحيا من جديد…
والوطن سيتعافى من الفيروسات…
ليحيا من جديد…
آه…
يا سيدتي
وملهمتي
يا من أنتِ
كعودِ المِسْكِ
كلّما احترقَ،
فاح شذاهُ…
يا من أنتِ
كالوطن،
تعطين بلا حدود،
ولا تبغين مقابلْ…
هات يديكِ،
وهيّا بنا نمضي، من جديدٍ،
للحياهْ،
هيّا بنا…
نزرعِ الدّنيا سنابلْ…
آه…
يا سيّدتي،
وملهِمتي…
“أراكِ فتحلو لديّ الحياةْ
ويملأ نفسي صباحُ الأملْ
وتنّمو بصدري ورودٌ عِذابْ
وتحنو على قلبِيَ المشتعِلْ
أراكِ فأُخْلقُ خَلقًا جديدا
كأنّيَ لم أبلُ حربَ الوُجودْ
ولم أحتملْ فيه عِبْئًا ثقيلاً
من الذكريات التي لا تَبِيدْ
أراكِ فتخْفُقُ أعصابُ قلْبِي
وتهتزّ مثلَ اهتزازِ الوَترْ
وتملأُنِي نشوةٌ لا تُحَدُّ
كأنّيَ أصبحتُ فوْق البشرْ”
المستشفى العسكري بتونس في 21 أكتوبر 2020
شارك رأيك