في هذا النص الذي كتبه إثر مغادرة زوجته المناضلة الحقوقية راضية النصراوي المستشفى العسكري بتونس بعد تعافيها من مرض الكورونا، الناطق الرسمي باسم حزب العمال يتحدث عن هذه التجربة المؤلمة والدروس المستوحاة منها و منها ما أسماه “واجب الحب” في الأوقات الحرجة.
بقلم حمة الهمامي
ونحن نغادر اليوم، الجمعة 23 أكتوبر 2020، المستشفى العسكري بالعاصمة، بعد إقامة دامت سبعة عشر يوما (17) إثر إصابة راضية بفيروس الكوفيد19 وتعافيها منه بعد معاناة كبيرة، لا يسعني إلا أن أتوجه من جديد بالشكر الجزيل إلى كامل الفريق الطبي وشبه الطبي الذي أشرف على علاجها وأنقذها وإلى كافة العاملات والعمال الذين يبذلون بدورهم جهدا مضنيا في ظروف صعبة.
كما أنني أتوجه بالشكر إلى الأمير لواء مصطفى الفرجاني، المدير العام للصحة العسكرية بوزارة الدفاع، وإلى الفريق الطبّي بقسم أمراض الأعصاب الذي يتابع منذ أشهر حالة راضية الصحية والذي لم يغب في هذه المحنة الجديدة في شخص العميد، الأستاذ رضا مريسة، رئيس القسم. والشكر أيضا لكافة الأطباء من الصديقات والأصدقاء الذين رافقونا في هذه المحنة، منذ اللحظة الأولى وأسدوا إلى راضية خدمات جليلة وأذكر منهم بالخصوص الأستاذ منير الواكدي والأستاذ محمد حبيب بن عريبيّة (بيولوجيست) والدكتور عبد العزيز المثلوثي والدكتورة حميدة الدريدي. ولا يمكنني أن أنسى رفيقاتنا ورفاقنا وصديقاتنا وأصدقائنا والمواطنات والمواطنين الذين هبّوا جميعا لشدّ أزرنا حبّا.
الوقوف إلى جانب المصابين في محنتهم يمثل جزء من العلاج
وهي فرصة لكي أتمنى من جديد الشفاء العاجل لكافة المصابين والمصابات بهذا المرض اللعين والغدّار ولأتقدم بأحرّ التّعازي إلى كافة عائلات المواطنات والمواطنين الذين قضوا نحبهم جراءه. وإنني لأهيب بكافة التونسيات والتونسيين ألاّ ينسوا لحظة واحدة أن المصابين/المصابات بهذا المرض هم آباؤهم وأمهاتهم وأجدادهم وجدّاتهم وأزواجهم وزوجاتهم وإخوتهم وأخواتهم وأقرباؤهم وقريباتهم وأصدقاؤهم وصديقاتهم وزملاؤهم وزميلاتهم وأبناء حيهم أو قريتهم أو مدينتهم بل في النهاية وطنهم وبناته فلا تتركوهم/ن خوفا من عدوى أو من إصابة فذلك أقسى عليهم/ن من المرض نفسه. فهم/ن لم يختاروا/يخترن المرض بل إن أيّا منّا معرّض للإصابة به. إن وقوفكم/كن إلى جانبهم/هن يمثل جزءا عظيما من العلاج خاصة أن الاحتياط من العدوى ممكن ولا يتطلب غير الانضباط لتعليمات الإطار الطبي وشبه الطبي.
لقد قضيت مع راضية أكثر من أسبوعين في نفس الغرفة وفي نفس الجناح الذي يأوي مرضى الكوفيد 19، لأخدمها وأساعدها على المقاومة إلى جانب الإطار الطبي وشبه الطبي، وقد التزمت التزاما صارما بتعليماته، كان فيه للاقتناع ولأداء “واجب الحب” (le devoir de l’amour)، وهو واجب أخلاقي وإنساني يتقدم كل الواجبات الأخرى، دور حاسم.
الانتصار على نوازع الخوف والأنانية
لقد اعتنيت بكل شؤونها فأطعمتها ولاطفتها وداعبتها وسلّيتها ولم تطلني عدوى لا منها ولا من الاحتكاك بالإطار الطبي وشبه الطبي وبالعاملات والعمال ولا من المريضات والمرضى الآخرين المقيمين في الجناح، وها إنني أغادر مع راضية المستشفى، هي معافاة وأنا معافى، على الأقل إلى حدّ الساعة، من أذى الفيروس اللعين. ولكنني كسبت راحة الضمير والشعور بأنني انتصرت على نوازع الخوف والأنانية التي أصبحت في عالمنا الحالي، في ظل هذا الطاعون الذي اسمه الرأسمالية الليبرالية المتوحّشة، ثقافة بلْ عقيدة كونيّة تضرب الأخلاق وتدمّر القيم الإنسانية النبيلة الكامنة فينا.
إن استقالة الدولة من أداء واجبها على الوجه المطلوب في هذا الظرف وعدم توفير الحد الأدنى من مستلزمات مواجهة الوباء لكافة المواطنات والمواطنين وخاصة الكادحين والفقراء والمهمشين منهم، يكسب دوركم/ن، إلى جانب الإطار الطبي وشبه الطبي المكافح، أهمية قصوى.
نظّموا صفوفكم يا بنات وطني وأبناءه. وحّدوا أنفسكم. لا تهتمّوا بالمهاترات الفارغة التي تكلّف وطننا عشرات الموتى ومئات المصابين يوميا. عوّلوا على أنفسكم، وعلى رسل الطب والعلم. لا تقتلوا الإنسان فيكم فهو هويتكم وسرّ وجودكم وسيكون في النهاية سرّ انتصاركم على الوحشية التي يغرسها فيكم، في كل لحظة، وعبر مختلف الأسلحة الأيديولوجية والثقافية الفتاكة، أباطرة المال والاستغلال والفساد في العالم كي تبقوا، تحت نيرهم إلى أبد الآبدين.
من الممكن أن يُدمّرَ الإنسانُ ولكنّه لنْ يُهْزَمَ
لا تتركوا حبيباتكم/ن وأحبّاءكم/ن يعانون وحدهم ألم المرض وألم العزلة. لا تتركوهم يموتون، إن قُدّر لهم أن يموتوا، بغصّتهم فلن يغفروا لكم ذلك وسيبقى موتهم وجعا ينغّص حياتكم ويخِزُ ضمائركم إلى أبد الآبدين. “من الممكن أن يُدمّرَ الإنسانُ ولكنّه لنْ يُهْزَمَ”، « L’être humain peut être détruit mais pas vaincu ». هكذا غنّى “عجوز” همنغواي في روايته العظيمة “العجوز والبحر” «Le vieil homme et la mer » وهو يواجه، في قاربه الصغير، أمواج البحر العاتية وهجومات الحوت إلى أن وصل إلى شاطئ النجاة، سلاحه في ذلك إرادته التي لا تقهر. فيا بنات وطني وأبناءه قاوموا واصمدوا وثابروا وصونوا إنسانيتكم، فهي هويّتكم وسرّ وجودكم وضمان مستقبلكم.
“إنّ ذا عصر ظلمة غير أنّي
من راء الظلام شمت صباحهْ”
شارك رأيك