أثار تعيين راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة و رئيس مجلس نواب الشعب لمحمد الغرياني آخر أمين عام للتجمع الدستوري المنحل مستشارا له استغراب كثير من خصومه و سبّب حرجا لكثير من أنصاره. إنّ مردّ هذا الاستغراب و هذا الحرج هو في الحقيقة عدم إدراك الروح التي كانت و لا تزال تحرّك الغنوشي و حركته منذ ظهورها. فهو ككلّ المنتسبين إلى الحركات الإسلاموية أو ما بات يُعرف بالإسلام السياسي لا يتورّع باسم البراغماتية عن التحالف الظرفي المؤقت سواء في الداخل أو في الخارج مع أيّ كان يساعده على تحقيق ما يُعرف ب”التمكين”. و لا بأس من التذكير- و ذاكرتنا قصيرة – ببعض معالم الطريق في مسيرة الغنوشي و حركته.
بقلم عمار العربي *
في أواخر الستينات و أوائل السبعينات من القرن الماضي كان الغنوشي يبحث عن موطئ قدم لحركة إخوانية ناشئة ما زالت تتدثر برداء دعوي لأنها كانت دخيلة غريبة عن الساحة التونسية لذلك تقارب مع محمد الصيّاح مدير الحزب الدستوري الحاكم الباحث عن حليف في مواجهة اليسار الذي كان في أوج قوّته خصوصا في الأوساط الطلابية و التلمذية. ففُتحت للجماعة المساجد و المعاهد و طُبعت منشوراتهم في مطبعة دار العمل حيث كانت تطبع الجريدة الرسمية للحزب. و مُنح الغنوشي حتى شهادة تكريم لتعاونه مع الحزب الدستوري.
في الثمانينات مدّ الغنوشي يده إلى محمد مزالي الوزير الأول آنذاك الذي كان في صراع مع الصياح حول خلافة بورقيبة خصوصا و أنه رفع شعار العروبة و الإسلام ووطّد العلاقات مع دول الخليج العربي.
في 7 نوفمبر 1987 لمّا أزاح بن علي بورقيبة الخصم اللّدود لحركة النهضة قال راشد الغنوشي قولته المعروفة “الله في السماء و بن علي في الأرض” و كلّف نور الدين البحيري بالتوقيع على “الميثاق الوطني” باسم الحركة.
أثارت انتخابات 1989 التي شاركت فيها النهضة بقائمات “مستقلّة” مخاوف بن علي فوضع حدا لشهر العسل بينه و بينها و بدأ يعمل على اجتثاثها و بدأت هي تنخرط في العنف الذي وصل في صائفة 1991 حد القيام بالتفجيرات المعروفة بنُزُل جهة الساحل.
لكنّ هذا الصراع الدموي لم يمنع راشد الغنوشي من السعي وهو في منفاه عبر وساطات داخلية و خارجية إلى التفاهم مع بن علي لإشراك النهضة في الحكم أو على الأقل رفع الحظر عنها. و قد تواصلت هذه المساعي حتى يوم 12 جانفي 2011. و هذا ما يفسّر عدم مشاركة أنصار النهضة – باستثناء عناصر معدودة – في الانتفاضة الشعبية و عدم التحاقهم بالتحركات في الشارع إلا بعد رحيل بن علي.
بعد 14 جانفي أدلى راشد الغنوشي بتصريح بدا للكثيرين غريبا و ربما صادما لكنه يعكس حقيقة موقفه من الحركة الشعبية. فقد قال بأنه كان من الممكن اجتناب وقوع الثورة و إراقة الدماء لو حصل تفاهم بين بن علي و حركة النهضة. كما قال مرة للمطالبين بدفع تعويضات لجرحى الثورة “لا أحد أجبركم على الخروج إلى الشارع و تعريض أنفسكم للرصاص”.
بدأ راشد الغنوشي و كثير من قيادات النهضة منذ 2011 يتحدثون عن المصالحة الوطنية بدل الحديث عن المحاسبة و هم الذين أسقطوا ما عُرف ب”قانون تحصين الثورة” أو “العزل السياسي” الذي يحرم التجمعيين من المشاركة في الحياة السياسية .أكثر من ذلك أصبح الذين دخلوا منهم بيت الطاعة “نظيفين” و وطنيين شرفاء.
لمّا أسّس الباجي قائد السبسي نداء تونس اعتبر راشد الغنوشي ذلك بعثا للتجمع و أقامت النهضة حملتها الانتخابية في تشريعيات 2014 على معاداة النداء و التخويف من عودة النظام القديم و ناصرت في الانتخابات الرئاسية المنصف المرزوقي ضد قائد السبسي و ظهرت القولة المعروفة “النهضة و النداء خطان متوازيان لن يلتقيا أبدا”. و لكن بعد فوز الباجي قائد السبسي بالرئاسة و حصول النداء على المرتبة الأولى في التشريعية و فشل كل محاولات شق صفوف النداء عن طريق حامد القروي الوزير السابق لبن علي و مدير التجمع الأسبق و كمال مرجان الوزير السابق في حكومات بن علي سارع راشد الغنوشي إلى عقد “حلف مقدّس” مع السبسي و حزبه لتقاسم السلطة.
لم تكن انتخابات 2019 مريحة بالنسبة للنهضة إذ لم يبلغ عبد الفتاح مورو مرشحها للرئاسية الدور الثاني و اضطرّت إلى مساندة قيس سعيّد إلى حدّ ما ضدّ نبيل القروي الذي كانت تتهمه هو و حزبه “قلب تونس” بالفساد.
أمّا في الانتخابات التشريعية فقد تصدّرت النهضة الأحزاب الفائزة لكن بنسبة ضعيفة لم تسمح لها بتشكيل حكومة حزبية تتزعّمها رغم محاولات التنسيق مع التيار الديمقراطي و حركة الشعب. و بعد أن تأكدت أنّ قيس سعيّد ليس “العصفور النادر” الذي تريده دمية تحرك خيوطها من وراء ستار و بعد أن تشكلت “حكومة الرئيس” و على رأسها هشام المشيشي لم يتورع راشد الغنوشي – لحشر سعيّد في الزاوية – عن مدّ يده إلى نبيل القروي شيطان الأمس الذي تحول بقدرة قادر بين عشية و ضحاها من رمز للفساد إلى انسان “نظيف” و وطني غيور على مصلحة البلاد. ونجحت النهضة في إبعاد المشيشي عن سعيّد الذي جاء به كما نجحت في السابق في إبعاد يوسف الشاهد عن السبسي. كما نجحت في تكوين حزام برلماني حول حكومته يضم ممثليها و ممثلي” ائتلاف الكرامة” و “قلب تونس”.
و هكذا خلا الجوّ لراشد الغنوشي و حركة النهضة في غياب معارضة متجانسة موحدة حول برامج و مواقف مبدئية من شأنها أن تشكل بديلا مقبولا.
لا شيء يزعج راشد الغنوشي و يفسد عليه تربّعه على رأس مجلس النواب بعد أن ضمن ابتعاد رأسيْ السلطة التنفيذية عن بعضهما إلا وجود كتلة الحزب الحر الدستوري و زعيمتها عبير موسي. لذلك تفتّقت عبقريته البراغماتية عن تعيين محمد الغرياني التائب و عرف موسي لإضعاف الدستوري الحر و كتلته البرلمانية بمحاولة شق الصفوف. يريد عودة نظام قديم مرسكل طيّع لا يدين بالولاء للحلف الإماراتي السعودي المعادي للتيار الإخواني عربيا و لا ترفضه الدول الغربية خصوصا و قد بدأت الأصوات المعادية للتيارات الاسلاموية ترتفع فيها هنا و هناك.
لكن هل سينجح محمد الغرياني حيث فشل من سبقوه ؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال. الشيء الوحيد الثابت هو أنّ راشد الغنوشي و حركة النهضة لن يتردّدا في التحالف حتى مع الشيطان لإطالة البقاء في السلطة ومواصلة التمكين. و مادامت الحركة لم تتحوّل من “جماعة ” إلى حزب سياسي فإنّ القطيع سوف يقبل على الدوام أن يُقاد بمنطق التوجيه و الطاعة و حتى اذا خرجت هذه الشاة أو تلك عن القطيع فإنها ستبقى وحيدة.
* ناشط حقوقي و سياسي مستقل.
شارك رأيك