وِفق التقليد الغربي، شهدَ النصف الأول من القرن التاسع عشر ميلادَ تخصّص علم الاجتماع. وهي فترة عرفت تحوّلات تاريخية عميقة أيضا، وصادفَ أن رافقتها صياغة الأُطر النظرية لأوغست كونت الذي يُنسَب إليه نشأة هذا العلم في الغرب. بَيْدَ أنّ عبد الرحمن ابن خلدون، ومنذ العام 1377م، قد صاغ مؤلَّفا متفرّدًا بعنوان “المقدّمة”، حدّد فيه أصول علم جديد، لم يسبق التطرّق إليه من قبل. هَدَف فيه إلى التحليل العلميّ والصارم للماضي، وإلى بناء إطارٍ يستوعب الحاضرَ ويستشرف المستقبلَ.
بقلم عزالدين عناية *
نشير هنا أنّ “كتاب المقدّمة” قد جرت ترجمته إلى اللسان الفرنسي إبّان الفترة التي شهدت وَلعًا بهذا العلم في الأوساط الغربية. كما يبقى المفكر الإنجليزي أرنولد توينبي من أوائل الغربيين الذين أشادوا بريادة ابن خلدون في صياغة فلسفة للتاريخ الاجتماعي لم يسبقه فيها أحد في أي مكان وفي أي زمان.
وسوسيولوجيا الحضارة أو “علم العمران”، كما هو وارد ضمن الاصطلاح الخلدونيّ، جاء التطرق إليه من منظور صاحب “المقدّمة” على أساس الاعتماد على مضامين الثقافة الإسلامية الإغريقية في عهده. وجرى تحليل المقولات والوقائع، في مختلف أوجهها الاجتماعية والفلسفية والتاريخية والعلمية، بهدف الإلمام بالسُّنن والقوانين المتحكِّمة بالتحول التاريخيّ. كان مقصدُ ابن خلدون الرئيس الكشفَ عن القوانين الثابتة في العملية الاجتماعية، على غرار القوانين الثابتة في الطبيعة البشرية في الماضي والحاضر.
تنزيل ابن خلدون المنزلة التي يستحقّها في الدراسات الاجتماعية
تحاول الباحثة الإيطالية أنّاليزا فيرزا العودةَ بنشأة علم الاجتماع إلى ما قبل أوغست كونت، المصنَّف ضمن التقليد الغربي المؤسّس الرائد لعلم الاجتماع، من خلال تنزيل ابن خلدون المنزلة التي يستحقّها في الدراسات الاجتماعية بوجهٍ عامٍّ. فقد سمح الاطّلاع الجيّد للمؤلّفة على المصادر الأولى للثقافة العربية ببناء رؤية موسَّعة تتجاوز المركزية الغربية وأحيانا تنتقدها. فهي في حديثها عن ابن خلدون لا تشكّك، أو تدحض قيمة المنجَزات الأولى في علم الاجتماع للرواد الغربيّين مثل: أوغست كونت وإميل دوركهايم وماكس فيبر وهربرت سبنسر، وإنما تحاول إبراز ريادة ابن خلدون في هذا الحقل. فهناك مسعى من الكاتبة للحثِّ على الانفتاح على الحضارات الأخرى، من خلال الكشف عن الإسهام الرياديّ لعالم الاجتماع العربي ابن خلدون.
نشير أنّ أنّاليزا فيرزا متخصّصة في علم الاجتماع وفي فلسفة القانون، فضلا عن كونها أستاذة جامعية. تمثّل العلاقة بين الليبرالية والتعددية الثقافية حقل البحث العام الذي تصوغ داخله أبحاثها، مع ميل لافت في أعمالها إلى المسائل الاجتماعية والأنثروبولوجية المتأتّية من التراث الإسلامي.
في كتابها الحالي الذي نتولّى عرضَهُ، تخصِّصُ الباحثة البابَ الأوّلَ إلى كلّ ما أحاط باكتشاف العمل الخلدونيّ، يلي ذلك بابٌ ثانٍ تناولت فيه معنى إعادة كتابة التاريخ وشكله، أي السياق السرْديّ للأحداث؛ ثم تخصِّصُ البابَ الثالثَ إلى تماسُكِ الطرح الاجتماعيّ الثقافيّ لابن خلدون وإلى التغيّرات الاجتماعية التي اشتغل عليها؛ في الباب الرابع تتناول عناصر الأزمة الداخلية في البناء الاجتماعي؛ ثم في باب خامسٍ وأخير تتناول الباحثة راهنيةَ فكر ابن خلدون.
لقد حاولت الكاتبةُ وضْعَ المقولات الخلدونية بشأن التحوّلِ الاجتماعيِّ، وبشأن علاقة المجتمع بالسلطة، رهن الاختبار، بما تبيَّن لها أنّ الإسهامَ الخلدونيَّ لا يزال يحافظ على راهنيته، كما لا يزال يتمتّع بجدوى في تحليل الظواهر. وتستعين الكاتبة في سبْرِ غور النص الخلدوني، أو بعبارة أخرى في الغوص في تجاويفه، بالاعتماد على ما دوّنَهُ شرّاح ونقّاد وعارضون لفكر ابن خلدون. فقد مثّلت المراجع المتعدّدة المعتمَدة وسيلةً لفهم ما استغلق عليها من فكر الرجل، وهو منهج صائب اعتمدته الباحثة.
تكشف الباحثة عن قدرات جيّدة في الإلمام بأدوات علم الاجتماع، وعن دراية بالمدوَّنة العالمية بشأن هذا العلم، سيما في مجال فلسفة الحضارة والتحوّل العمرانيّ. كما حاولت صياغة نصّها الإيطالي بلغة أكاديمية راقية استوفت شروط الكتابة العلمية. وقد ساعد الباحثة في ذلك إلمامها المتواضع بالعربية بما دفعها إلى التثبّت من المصطلحات الخلدونية ومقابلاتها في اللغات الغربية. إذ باتت المصطَلَحات الخلدونية، بفعل الترجمات المتعدّدة للنصّ الخلدوني إلى اللغات الغربية، دارجةَ الاستعمال في أوساط علماء الاجتماع والمؤرّخين المنشغلين بفكر الرجل، وهو ما يَسَّرَ للباحثة تقديمَ عرْضٍ واضح المعالم لمقولات ابن خلدون.
استعادة الجانب المهمل في القراءات الغربية لابن خلدون
ضمن هذا الإطار العامّ، اِنشغل كتابُ الباحثةِ الإيطالية أنّاليزا فيرزا بتحليلِ المفهومِ الاجتماعيّ لابن خلدون بأبعاده الفلسفيّة والسياسيّة، الذي استوْحى منه ما يطلق عليه علم العمران. كما تحاوِل الباحثة تفسيرَ الأسباب التي جعلت ابن خلدون خارج سرديّة تأسيس علم الاجتماع وفق المنظور الغربيّ، أو بشكلٍ آخر خارج كوكبة الرواد في هذا العلم. إذ حاولت فيرزا الخروجَ بابن خلدون من حيز التصنيف كمجرّد مساهِم في كتابة التاريخ الاجتماعيّ، كما يُصنَّف لدى بعض الغربيّين عادة، إلى حيز التأسيس لشروط وسُنَن التبدّل الحضاريّ والحراك المجتمعيّ، وهو ما يأتي في صلب قضايا علم الاجتماع. فالرجل بقدرِ ما كان راصدًا للشأن الاجتماعيّ، كان بالمثل منشغلًا بآليات تعاقب الفعل الاجتماعي وسيْرِه، وبقيام العمران وانهياره، وهو ما يُشكِّل جوهرَ انشغال علم الاجتماع.
تلك عموما الإشكاليات التي دار حولها كتاب أنّاليزا فيرزا، والتي لم تنحصر عند شخص ابن خلدون، بل حاولت الباحثة وضْعَ الرجل ضمن إطارٍ عامٍّ للحضارات الكونية، بوصف تبدّلاتها، كانت من المحفّزات الأساسيّة للنَّظر الخلدونيّ في البحث عن إيجاد علم أو إطارٍ فهم يستوعب تلك التبدلات.
فقد غلب على مجمل الدارسين الغربيّين لابن خلدون التعامل مع نصّه كأحد النصوص التي تروي تاريخًا اجتماعيًّا، وليس كنصٍّ تأسيسيٍّ علميٍّ للفعل الاجتماعيّ. وكأنّ المقولَ الخلدونيّ يفتقر إلى فلسفة وعمق في النشاط الاجتماعيِّ، فهذا الجانب الأخير المهمل في القراءات الغربية لابن خلدون هو ما حاولت الباحثة إبرازه والتنبيه إليه. لذلك تحاول أنّاليزا فيرزا في كتابِها نقدَ الرؤى الغربيّة التي لا تُدرِج “مقدّمة ابن خلدون” ضمن الكتابة السوسيولوجية، وتتتبَّعُ دواعيَ عدم إلحاق صاحب “المقدّمة” بكوكبة روّاد علم الاجتماع، مثل ما ذهب إليه بوميان كريزيستوف في كتابه المنشور في دار غاليمار الفرنسية “ابن خلدون من منظور الغرب” (2006). وقد اِعتبر فيه كريزيستوف أنّ علمَ الاجتماع هو وليد شرعيّ للعلمانية، فهو نظرٌ في الظواهر الاجتماعية والتبدّلات المجتمعية نابعٌ من السياق السياسيّ الاجتماعيّ للمجتمعات الغربية. لم يستند نفيُ بوميان كريزيستوف عن ابن خلدون الريادة في ذلك المجال إلّا لكونِ الرجل عاش في القرن الرابع عشر الميلادي وفي المغرب الإسلاميّ، وضمن سياق حضاريّ مغاير للحضارة الغربية. والحال أنّ ذلك الشرطَ الذي يضعه كريزيستوف، كما تذهب أنّاليزا فيرزا، هو من باب وضعِ النتيجة قبل تفحّص الواقعة. إذ يصعب على التصوّرِ الغربيِّ القبول بقاضٍ مالكي “متديّن” الوقوف وراء إنشاء علم الاجتماع، لعلّ تلك العقدة هي التي حالت دون الاعتراف بابن خلدون مؤسّسًا لعلم الاجتماع، كما تخلُص الباحثة.
استدعاء المفاهيم الخلدونيّة لفهم الواقع السياسيّ والاجتماعيّ
فقد أبان ابن خلدون، بحسب تحليل فيرزا، عن إمكانية القيام بمهنة عالم الاجتماع، دون الالتزام بالضرورة بالمنظور العلماني الغربي أو استبطانه. فهناك إحاطة مغايِرة بالوقائع الاجتماعية وبالقوانين المتحكِّمة فيها، ضمن إقامة علاقة متّزِنة بين النقل والعقل، وهو ما جرى ضمن السياق الإسلاميّ، أي فيما يربط “ما بين الحكمة والشريعة من اتصال” كما بيَّنَ فيلسوف آخر سابق ألا وهو ابن رشد. فقد استطاع ابن خلدون –وفق فيرزا- قبل ما يناهز الخمسة قرون من ظهور علم الاجتماع في الغرب، بناءَ سلسلة من المفاهيم حول السلطة والمجتمع، نعدُّها مرتبطةً بثقافتنا العلمية الحديثة، مثل التطرّق إلى التماسك الاجتماعيّ، وإلى المنهج العلميّ للبحث عن العوامل الجماعية، وإلى الظواهر الاقتصادية، وإلى العلاقة بين المجتمع والسلطة، أو بين السلطة وأشكالها الرمزية. حيث تكشف فيرزا أنَّ جلّ الدراسات السوسيولوجية للمجتمعات الإسلامية، المنجَزَة من قِبل عقول غربية، تأتي في معظمها من خارج الوعي بميكانيزمات تلك المجتمعات. وتُرجّح أنّ استيعابَ ابن خلدون مفهوميًّا ومنهجيًّا، من شأنه أن يُصحِّح الوعي الغربيّ بالظواهر الاجتماعية في العالمين العربي والإسلامي، التي تشكو جملة من الأغاليط والإسقاطات. لذلك تلحّ الكاتبة على ضرورة استدعاء المفاهيم الخلدونيّة لفهم الواقع السياسيّ والاجتماعيّ، خصوصا في المجتمعات الإسلامية الراهنة، ومن هذا الباب تَبْرُز راهنية منهج ابن خلدون وعمق طروحاته.
تلوح الإضافة المهمّة لأنّاليزا فيرزا في كتابها في انتقاد المسارات التي تربط علم الاجتماع بالثقافة الغربية، والإلحاح على إبراز أنّ هذا العلم قد وجَدَ حضورًا ضمن ثقافة مغايِرة. فقد حمل انشغال المؤلّفة بالسياقات الثقافية على إيلاء الثقافة العربية العناية اللازمة في أبحاثها، وإن لم تشكّل هذه الثقافة الإطار الرئيس لأبحاثها ودراساتها.
لكن ممّا يلاحظ في الكتاب، غياب المصادر والمراجع العربية غيابا لافتا، في مجال يصعب التغاضي فيه عن المؤلفات العربية. وتحاول الكاتبة سدّ تلك الثغرة بملاحَقَة ما كُتب عن ابن خلدون في اللغات الأوروبية. فقد جرى تناولُ المتن الخلدونيّ بالتحليل والنقاش والتوضيح لدى جملة من الكتّاب العرب وغير العرب، ممّن دوّنوا نصوصهم بلغات غربية، وهو ما تحاول فيرزا متابعته.
وزّعت المؤلّفة مراجعَ كتابها إلى قسميْن: قسمٌ تعلّقَ بأعمال ابن خلدون المترجَمة إلى الفرنسية والإنجليزية، وتغاضت عن إيراد ما صدر عن ابن خلدون في غيرهما، وهي كتب دارت بالأساس حول كتابيْ “العبر” و”المقدّمة”، فضلا عن كُتُب حاولت تدوين السيرة الخلدونية؛ وقسمٌ تناول مراجع بحثها، وهي نصوصٌ باللغات الثلاث الإيطالية والإنجليزية والفرنسية. ظهر في هذه القائمة عدد من الكتّاب العرب ممن اهتمّوا بالفكر الخلدونيّ، وممّن دوّنوا نصوصَهم بلغات أجنبية. ولم يحظَ بالاهتمام أيّ كاتب عربيّ كتب عن ابن خلدون بالعربية، ما لم تُتَرجم أعماله إلى اللغات الغربية. فإلمام مؤلّفة الكتاب المحدود باللغة العربية لم يسمح لها بالاطّلاع على الأعمال العربية التي أُنجزت حول الفكر الخلدوني، وإن كشفت في مؤلّفها عن متابعة مهمّة لما كتبه العرب في اللغات الأخرى عن ابن خلدون. ففي مستهلّ تكوينها الجامعيّ تابعت الباحثة سلسلةً من الدروس الجامعية لتعلّم العربية في تونس، ولكن كما يبيّن نصّها لم ترتق إلى الإلمام المعمّق بهذه اللغة، ولم تبلغ مستوى الاطلاع المباشر على النصوص العربية. تبقى أنّاليزا فيرزا دارسةً تنتمي بشكل عام إلى جيل “المستعرِبين الغربيين الجدد” ممن يحاولون بناء ملامح مستقلّة عن المستشرقين السابقين، وإن تبقى نقيصة الإلمام الجيد بالعربية سمة بارزة بين العديد من هؤلاء. تحاول صاحبة الكتاب أن تستعيض عن هذا النقص بالاطلاع على الأعمال المترجَمة في الشأن.
ضمّنت الباحثة كتابها فهرسيْن: أحدهما للمواد وآخر للمَراجِع والمصادر، وتغاضت عن أيّ نوع من الفهارس الأخرى، التي نقدّر الحاجة الملحّة إليها في مثل هذه المواضيع. حيث تَبرُز الحاجة واضحة مثَلًا إلى فهرس للمصطلحات الخلدونية، سيما وأنّ الكتاب يحاول أن يعرض النظريةَ الخلدونية في علم الاجتماع وأن يلّمَ بسائر تفرّعاتها ويقدّمها للقارئ الغربي. فلا يفي بالغرض الشرح للنظرية الخلدونية، بل هناك حاجة ملحة أيضا إلى إيراد المصطلح الخلدونيّ وذكر مقابله الإيطالي والتعليق عليه بالشرح والتوضيح.
من جانب آخر، غابت من الكتاب سائر أشكال التوضيح المعتمَدة في الكتابة السوسيولوجية من جداول ورسوم وخرائط، حيث اعتمدت المؤلّفة بشكلٍ رئيسٍ على إدراج توضيحات مكتوبة في الهامش على صلة بالمتن. صحيح اِستوْفت الباحثة الشروط الضرورية للكتابة السوسيولوجية، ولكنّها لم تجعل من كتابها عملا مكتمَلا يسهل على القارئ غير المختصّ، أو المتابع الغربي للفكر الخلدوني، الإلمام بطروحات الرجل، سيما وأنّ الحاجة إلى جداول مقارنة أو رسوم توضيحية يبدو لا غنى عنه لعرْض الطرح الخلدوني. لا ينفي هذا قيمة الكتاب من حيث بنائه المنهجي، ومن حيث مضامينه العلمية والمعرفية. فقد لمستُ لدى مؤلّفته نباهة وقدرة عاليتين في الإحاطة بقضايا علم الاجتماع وأدواته، ناهيك عن وعي الكاتبة بالإسهام الحقيقي لابن خلدون ضمن كوكبة الرواد في علم الاجتماع.
* أكاديمي تونسي مقيم في إيطاليا.
** “الحضارة والسلطة في السوسيولوجيا الخلدونية”- تأليف: أنّاليزا فيرزا – منشورات فرانكو أنجيلي (ميلانو-إيطاليا)-‘باللغة الإيطالية- 2020- 280 ص.
شارك رأيك