الخطاب السياسي سواء في تونس أو في بلدان الربيع العربي لم يتطور في فترة ما بعد الثورة رغم أننا حققنا شوطا مهما في حرية التعبير. فالخطاب السياسي بقي مرتبطا بحملات تجميع الأصوات واستهداف قاعدة الناخبين دون برامج واضحة و مدروسة. الخطاب الذي نتعرض إليه يوميا في البرامج الإخبارية و الصفحات الالكترونية و الورقية لم يرتق بعد إلى مستوى الخطاب الواقعي الذي يمس المواطن و يدرس الواقعين الاقتصادي و الاجتماعي و يقدم حلولا للمشاكل المطروحة. ألا يجعلنا هذا نقر بفراغ الساحة من سياسيين حقيقيين و من منظرين في المجال السياسي مما يضاعف الهوة بين الطبقة السياسية و انتظارات الشعب و مما يزيد من حدة الأزمة السياسية الخانقة. ألا يدفعنا هذا إلى ضرورة مراجعة الخطاب السياسي و آليات تحقيق المنشود عوض السفسطة التي تجاوزتها الأحداث و تجاوزها التاريخ ؟
بقلم: أنور بن حسين *
السياسة فن الممكن و الواقعية، هي كيفية التعامل مع القضايا الراهنة بحنكة و حكمة و تقديم حلول و برامج على جميع المستويات و بناء الثقة بين الطبقة الحاكمة و الشعب و هذا يحتاج إلى صياغة خطاب جديد يتماشى مع الواقع الذي نعيشه و خطاب مقنع لا يعتمد التسويف و الوعود الكاذبة و يتجاوز الواقع إلى ما بعد الواقع.
ما زلنا نعاني من الطبقة السياسية التي لم تصل إلى مرتبة المسؤولية و المسؤولين الذين يمارسون “القرصنة السياسية” على حساب المصلحة العامة و على حساب المواطن الذي مل من الوعود و فقد الأمل في المستقبل الذي يبدو ضبابيا، في حين أن الدول المتقدمة تقوم بصناعة المستقبل وتضع ممكنات النجاح لمشاريعها. و لكن إلى أين في ظل غياب حلول جذرية و استراتيجية واضحة لنخرج من المأزق؟
كيف نتابع أداء المسؤولين و نتثبت من مصداقيتهم ؟
نحن نطالب بإصدار قوانين تخول للمواطن سحب الثقة من المسؤولين المنتخبين أو الذين وقع تعيينهم في مناصب تنفيذية مع تحوير القوانين التي تخص الرقابة و متابعة أداء المسؤولين و مصداقيتهم.
أكبر أعداء الديمقراطية هم الذين ينظرون لها على أنها وسيلة لترويض الشعب. الديمقراطية مفهوم نكتسبه من خلال الممارسات العادلة في حياتنا. مثلا، لا يمكن أن نتحدث عن ديمقراطية إذا أردت أن تملك ما هو ملك لغيرك وما نعتبره ملكية مشتركة. المشترك هو الذي يجمعنا من أجل هدف واحد. الديمقراطية ليست نظاما سياسيا معينا بقدر ما هي تربية اجتماعية و بسيكولوجية تدخل في تفاصيل الحياة اليومية قبل أن تصبح وسيلة لممارسة السلطة بأشكالها المختلفة.
السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي : ما هو البديل الذي يمكن أن تقدمه الأحزاب خاصة و أن الأحزاب الحاكمة لا تملك ممكنات لتغيير الواقعين الاجتماعي و الاقتصادي لتونس فما بالك بالأحزاب التي لا تشارك في القرار ولا تملك برامج واقعية ولا الوسائل ولا القدرة على حل المشكلات العالقة.
الرغبة في الزعامة والتحكم قضى على النشاط السياسي الذي أصبح مجرد كلام عابر للمارة في الطريق العام. سؤالي هل اليوم لدينا حزب يرتقي إلى مستوى المشاريع البناءة و هل لدينا اليوم سياسيين يؤمنون بهذا الوطن؟ و هل وصلنا إلى مرحلة من الوعي بجسامة المسؤولية و بالأمانة التي تقتضي التضحيات الجسام من أجل الشعب؟
احتكار النفوذ للأقلية المهيمنة التي تخدم مصالح أشخاص و لوبيات
يمكن أن يكون هذا الكلام خرافيا و لكن يمكن أن يفهمه أولي الألباب على أنه إنذار وفرصة لإعادة ترتيب البيت من الداخل. المجتمع الذي لا يؤمن بالقيم النبيلة و لا يضع المصلحة العليا للوطن فوق الحسابات الضيقة… المجتمع الذي يقصي علماءه و مفكريه و يهمش الطبقة الفقيرة… المجتمع الذي لا يعترف بالعدالة الاجتماعية كأولوية لتحقيق التنمية الشاملة و الذي لا يؤمن بالفكر التقدمي الديمقراطي و الحداثي و يرفض الحوار و يكرس لرداءة المشهدين الثقافي و السياسي من خلال اعتماد سياسة الإقصاء و المحسوبية و غياب الوازع الجماعي، هو مجتمع منهك و لا يمكنه وضع بوصلة على المدى البعيد.
إن العمل المدني و السياسي في الوقت الراهن يحتاج إلى رؤية أوسع و أعمق و قاعدة تمثيلية تستجيب لتطلعات الأغلبية و تحترم مواقف الأقلية من خلال إرساء قوانين تحفظ حقوق كل الأطراف و تضمن حق الاختلاف في إطار التسامح و التفاعل الإيجابي بين كل الأطراف الناشطة في المجتمع و تجنب المشاحنات الشخصية و التجاذبات السياسية لإنتاج منظومة ديمقراطية تفتح المجال لكل التيارات لخدمة الشأن العام ولا ننسى دور الإعلام الذي يلعب دورا محوريا، فدوره لا يقتصر على تزويد المتلقي بالمعلومات والأخبار بل من مشمولاته محاربة الفساد ومتابعة شفافية أداء المسؤولين من خلال قدرة الإعلامي على النفاذ للمعلومة وعدم الاصطفاف وراء الجهات التي تخدم مصالح ضيقة وإيديولوجية لأن استقلالية الإعلام تساهم في تطوير آلية الرقابة باعتبارها سلطة رابعة تضطلع بإنارة الرأي العام.
الحكومات العربية باختلاف أنظمتها لم ترتق بعد إلى المستوى الحضاري الذي يكرس العدالة الاجتماعية و يجعل خدمة المواطن أولوية مطلقة. بل ما نراه هو احتكار النفوذ للأقلية المهيمنة التي لا تخدم إلا أجندات ضيقة تخص اللوبيات و الأشخاص و تتغافل عن المصلحة العليا للأوطان التي تستوجب الحوكمة الرشيدة في ظل الشفافية و الديمقراطية و تكون تحت رقابة هياكل محايدة و تؤمن بالانفتاح و التشاركية في اتخاذ القرار.
إن بناء المستقبل يحتاج إلى إستراتيجية توفر أسباب النجاح و إلى رؤية تأخذ بعين الاعتبار كل الأطراف المساهمة في هذا النجاح و منها الشباب الذي يعتبر عماد المستقبل و أساس تقدم الأمم. من يريد أن يبني غدا أفضل عليه أن يعي بدور الشباب بما أنه محرك الأجيال. فالدولة التي لا تضع الشباب ضمن الأولويات الملحة و الخيارات الإستراتيجية التي تراهن عليها لا يمكن أن تتحدث عن مستقبل زاهر.
تغيير العقليات هو أصعب مهمة يضطلع بها المفكرون و المناضلون في سبيل النهوض بالإنسان من الجهل و التخلف و التعصب. و هذا العمل يتطلب الكثير من المرونة و الصبر و المثابرة لأنه يستغرق سنوات وتخطيطا قابلا للإنجاز. ومن هنا وجب العمل على تغيير العقلية السائدة. تحرير العقل يتمثل في إعادة تشكيله على القيم و النظم التي تضمن التعايش السلمي بين الأفراد و تضمن الحريات و تروض العقل على قبول الآخر و الانفتاح على التجارب الإنسانية الناجحة و تدرب العقل على ممكنات التواصل مع تطورات العصر دون المساس بالمثل الأخلاقية و الخصوصيات الثقافية لكل مجتمع.
* ناشط مدني وكاتب / سوسة / تونس.
شارك رأيك