مع اعلان النتائج شبه النهائية المؤكدة لفوز المرشح جو بايدن لا أفهم لما يسعد التونسيون وشعوب الشرق الأوسط وشمال افريقيا وخاصة المثقفون منهم والمهتمون بالشأن الأمريكي، أيما سعادة، بفوز هذا الأخير معتقدين – خطأ ً في كل مرة – أن فوز مرشح ديمقراطي سيجلب الرخاء على شعوبنا وينقص من حدة التدخل الأمريكي في شؤوننا الداخلية.
بقلم طه المصمودي *
أتذكر جيدا الآمال التي علقت على باراك أوباما حين انتصر على المرشح الجمهوري جون ماكاين في انتخابات سنة 2008 وهي مماثلة لتلك المعلقة على كمالا هاريس نائبة الرئيس المنتخبة حاليا – علت في ذلك الحين أصوات المبتهجين مراهنين على انتماء الرئيس العرقي الأفرو-أمريكية وحتى على إسلامه المفترض (باعتبار اعتناق أبيه أو جده للإسلام) وكذلك على انتمائه الديمقراطي حتى يعم السلام والرخاء في العالم وتصبح الولايات المتحدة الأمريكية حملا وديعا “لا يخبش لا يدبش” كما يقال بالدارجة التونسية.
يوم السبت السابع من نوفمبر تم الإعلان عن فوز جو بايدن الذي سبق له وأن شغل منصب نائب الرئيس الى جانب أوباما وهو الذي يعتبر ثاني مرشح للانتخابات من المنتمين الى إدارة أوباما بعد هيلاري كلينتون التي اتهمت في انتخابات 2016 بتخريب العالم العربي تبعا لاشتغالها كوزيرة للخارجية في فترة حكم نفس الرئيس من قبل الفرحين بفوز بايدن.
لا ننسى تحالف أوباما مع الإخوان المسلمين
لست من أنصار نظرية ربيع الخراب. فلا شك أن الثورات العربية أتت لتعبر عن رغبة عارمة لدى شعوب هذه المنطقة في العيش ضمن نظام ديمقراطي تعددي يضمن التداول على السلطة ولتعبر كذلك عن توقها للحرية التي طالما ظلت المنسية من المعجم السياسي العربي. الا أنني لا أدري كذلك لماذا ننسى أو نتناسى ما قامت به إدارة أوباما في الشرق الأوسط وشمال افريقيا من دعم وتحالف مع الاخوان المسلمين وتدخل عسكري في ليبيا في 2011 ودعمهم لداعش والتنظيمات الإرهابية دون أن ننسى تخريبهم لليبيا وسوريا واليمن وغيرها من الدول. لماذا نفرح اليوم لفوز الرجل الثاني في الإدارة التي قامت بهذا؟
لا أعتقد أن ترامب هو أفضل الرؤساء في تاريخ أمريكا. بل ربما هو من أسوئهم. لكن بعيدا عن تصريحاته وأسلوبه المثيرين للجدل بما أن هذا الأمر يتعلق بأسلوبه الاتصالي (كونه رئيسا غير تقليدي non conventionnel ومثيرا للجدل هو أحد عوامل شعبيته لدى جزء هام من الناخبين) وبعيدا كذلك عن مواقفه المجتمعية المحافظة (لا أدعي في الحقيقة الإلمام بتفاصيل الواقع الاجتماعي الأمريكي المعقد بعض الشيء والمختلف عن نظرتنا المركزية الأوروبية européocentrique) فإنني لا أعتقد أن فترة تواجد دونالد ترامب على رأس البيت الأبيض كانت كارثية كما يدّعي البعض. سأكتفي هنا بتعداد إيجابيات رئاسة هذا الأخير على مستوى السياسة الخارجية لأني أعتقد أن ما يعنينا بشكل مباشر، نحن كشعوب نامية ننظر بإعجاب وننتظر بلهفة عما ستسفر عنه الانتخابات الأمريكية، هي الكيفية التي ستسير بها الولايات المتحدة إمبراطورتيها العالمية الضخمة.
فترة ترامب لم تكن سيئة تماما بل كانت لها نجاحاتها
من الممكن أن نؤاخذ ترامب على مواقفه المشككة في الانحباس الحراري أو التغيّر المناخي (رغم أن هذا الموقف يمثّل تيارا له ممثلوه والمدافعون عنه و من بينهم مثلا الطبيب الفرنسي ديدي راؤولت صاحب نظرية الكلوروكين وليس أحد اختلالات ترامب كما تريد بعض وسائل الاعلام تسويقه). فيما عدى ذلك أعتقد أن الحصيلة كانت في مجملها إيجابية.
لقد تميزت فترة ترامب بانعزال أمريكا وعودتها نوعا ما الى تقاليدها الديبلوماسية التي عبّر عنها أول رؤساء أمريكا بعد الاستقلال جورج واشنطن الذي قال: “القاعدة الكبرى في التعامل مع الأمم الخارجية هي توسيع العلاقات التجارية معها قدر الإمكان وأن يكون لنا معها أقل علاقات سياسية ممكنة” أو الرئيس جيمس مونرو الذي دعا الى عدم التدخل الأمريكي في الشؤون الأوروبية (رغم اختلاف السياقات) والذي ميزت مبادئه السياسة الخارجية الأمريكية طوال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
تجد هذه الانعزالية الجديدة مبرراتها في عدة عوامل سنحاول الإشارة الى أهمها…
راهنت الإدارات الأمريكية السابقة كثيرا على التدخل العسكري المباشر في سياق تأكيد القوة العظمى الأمريكية أو اثباتها تحت غطاء نشر القيم الإنسانية من حرية وعدالية وديمقراطية ومحاربتها محور الشر الداعم للارهاب أو الداعي الى إرساء نظام عالمي جديد. الا أن النتيجة المرجوة من هذه التدخلات لم تتحقق. فبالاضافة الى تكالفها الضخمة والتي لم تعد الخزينة الأمريكية قادرة على تحمل نفقاتها فانها لم تزد الا في إحلال الفوضى وابتعدت عن الأهداف التي رسمت لها. فنرى فوضى ونظاما مواليا لإيران في العراق وحكومة إسلامية في أفغانستان. لهذا السبب، وفي مرحلة أولى، تم سحب أعلب القوات المرابطة في العراق وأفغانستان في فترة أوباما وتم الاكتفاء بالضربات الجوية التي لا تقل تكلفة عن سابقاتها. وبالتالي تراجعت الولايات المتحدة في فنرة ترامب عن إرسال قوات وعن القيام بضربات جديدة فيما عدى تلك التي تندرج ضمن ضرب مواقع تنظيم الدولة الإسلامية في إطار التحالف الدولي.
من ناحية أخرى تميزت فترة ترامب بغلبة عقلية رجل الأعمال حتى في إطار علاقته ببقية الدول. فمثلا شرط على الامارات والممالك الخليجية والتي تتمتع بالحماية الأمريكية بفضل القواعد العسكرية المنتشرة في الجزية العربية وكذلك بفضل الأسطول الخامس المناط بعهدته حماية المحيط الهادي ودول الخليج.
هذه العقلية ألقت بظلالها على العلاقات الأمريكية بأغلب دول العالم من خلال رغبته في تحسين العلاقات حتى مع الأعداء التاريخيين لأمريكا. في 2018 عقد ترامب قمة مع الرئيس الكوري الشمالي في سابقة منذ الحرب الكورية في خمسينات القرن الماضي. ورغم عدم التوصل الى تقارب جدي بين الطرفين الا أن ما يحسب لترامب هو إذابة الجليد العالق بين البلدين منذ الحرب الباردة.
في المجمل العقيدة الترامبية في السياسة الخارجية والتي يلخصها شعار America first قد أتت استجابة لرغبة جزء هام من الشعب الأمريكي الذي ملّ المغامرتية الدولية لبلاده واختار ترامب ليجسد القطيعة معها ويترجم رفضا يأتي من الداخل الأمريكي للعولمة على الشاكلة التي أرادت الولايات المتحدة فرضها بما هي رغبة في التنميط ونشر النموذج الأمريكي-الغربي لأجل خلق حلفاء وشركاء “مسؤولين”.
ان فترة رئاسة ترامب تميزت، بفضل العوامل المذكورة أعلاه والتي اكتفيت بذكر أهمها بتراجع للحضور الأمريكي في العالم وعودة للواقعية السياسية realpolitik اذ لم تعد العلاقات الخارجية وسيلة لإثبات الهيبة بقدر ما أصبحت وسيلة لخدمة الواقع الداخلي الأمريكي المتأزم وتحسين الشروط الداخلية.
فترة حكم بايدن سوف لن تختلف جذريا عن عقيدة أوباما-كلينتون
لا أدّعي هنا الدفاع عن حصيلة حكم ترامب في المجمل إذا ما قيّمه شعبه وقرّر بأنه لم يعد أهلا لرئاسة أقدم ديمقراطية تمثيلية وأكبر قوة اقتصادية وعسكرية وثقافية في العالم. لا شكّ أن لترامب أخطاءه وهناته ولا شكّ أن سوء ادارته لأزمة كوفيد-19 والتي كان لها الأُر الكبير على هزيمته اذ عرّضت حياة الملايين من الأمريكيين للخطر. الاّ أنني أردت من خلال هذه المحاولة لفت النظر الى الجانب المضيء ان صحّ التعبير في علاقة بسياسة الرئيس المنتهية ولايته الخارجية والّتي وان عادت لعوامل موضوعيّة فانها عادت في جزء منها بالنفع أو على الأقل بدرء الضرر في علاقة بالمنطقة.
ربّما ارتكب ترامب عدّة أخطاء في علاقة بالواقع الأمريكي الداخلي وربما كان رئيسا مقسّما للأمريكيين لكنّني لن أضع نفسي مكانهم هذه المرّة. لقد أثبتت التجربة أنّ كل المبادئ والقيم الكونية والإنسانية لا تنطبق حسب سكّان البيت الأبيض على بقيّة سكّان العالم من شعوب نامية و”متخلّفة”. ولا أعتقد أنّ فترة حكم بايدن ستختلف جذريا عن عقيدة أوباما-كلينتون ولا أنّها ستتمايز عمّا فعله الديمقراطيّون كلّما حكموا من بيع للأوهام وادعا بالوقوف الى جانب الشعوب قبل تخليف الدمار وتحالفهم مع أكثر القوى رجعية ومعاداة للقيم الّتي يدّعون الدفاع عنها.
* أستاذ مبرّز وباحث متحصّل على شهادة التبريز في التاريخ يدرّس مادتي التاريخ والجغرافيا بالإضافة الى العلوم السياسية والجغرافيا السياسية بمدرسة تونس الدولية.
شارك رأيك