اقتضت التحولات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات المعاصرة ظهور أسلوب اللامركزية و التنصل من سطوة السلطة المركزية. و في هذا الإطار، نص الفصل 14 من الدستور التونسي لعام 2014 على ما يلي : ” تلتزم الدولة بدعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني في إطار وحدة الدولة”. و لكن كيف ذلك ؟
بقلم مروى الفهري *
في ظل الشكل الموحد للدولة فانه “يتبع الديمقراطية المحلية منطق التبعية الذي يفضي إحالة مجموعة من الاختصاصات و سلطات اتخاذ القرار من السلطة المركزية إلى السلطات المحلية. وهكذا تتم إدارة الشأن العام في جزء منه بالتعاون بين السلطة المركزية و السلطات المحلية باعتبار أن هذه الأخيرة هي الأقرب إلى الميدان و الأقدر على الاستجابة لاحتياجات المواطنين من أي طرف أخر”.
وهو ما تأكد بالأساس الدستوري خاصة من خلال الفصل 134 الذي نص على ما يلي: ” تتمتع الجماعات المحلية بصلاحيات ذاتية وصلاحيات مشتركة مع السلطة المركزية وصلاحيات منقولة منها”. كذلك نص الفصل 135 على أن “للجماعات المحلية موارد ذاتية وموارد محالة إليها من السلطة المركزية، وتكون هذه الموارد ملائمة للصلاحيات المسندة إليها قانونا”. إضافة إلى الفصل 136 الذي ينص على ما يلي: “تتكفل السلطة المركزية بتوفير موارد إضافية للجماعات المحلية تكريسا لمبدأ التضامن وباعتماد آلية التسوية والتعديل. تعمل السلطة المركزية على بلوغ التكافؤ بين الموارد والأعباء المحلية”.
نص الفصل 12 من مشروع قانون المالية لسنة 2021 على إحداث “صندوق خاص يطلق عليه اسم ‘صندوق دعم اللامركزية والتسوية والتعديل والتضامن بين الجماعات المحلية’ يتولى تمويل ميزانية الجماعات المحلية. ويتولى الوزير المكلف بالجماعات المحلية الإذن بالدفع لمصاريف الصندوق وتدرج عملياته المالية ضمن حساب خاص يفتح بدفاتر أمين المال العام للبلاد التونسية.
كما عدد هذا الفصل موارد تمويل هذا الصندوق التي توزع كما يلي:
من الاعتمادات لفائدة البلديات.% 70-
من الاعتمادات لفائدة الجهات.% 20-
من الاعتمادات لفائدة الأقاليم.% 10-
وذلك طبقا لمجلة الجماعات المحلية.
تم إحداث هذا الصندوق طبقا لأحكام الفصول 148 و 149 و 150 من مجلة الجماعات المحلية وتخصص هذه الموارد لتمويل الجماعات المحلية بهدف تدعيم قدراتها واستقلاليتها المالية ومساعدتها على مجابهة الأعباء المحمولة عليها وبلوغ التوازن المالي والتكافؤ بين الموارد والأعباء وتحقيق التضامن والحد من التفاوت بينها.
كما تضمن المشروع التفعيل التدريجي لصندوق دعم اللامركزية والتسوية والتعديل والتضامن بين الجماعات المحلية من خلال مواصلة العمل لفترة انتقالية بالمقاييس الحالية المعتمدة في توزيع الاعتمادات المخصصة من موارد الدولة للجماعات المحلية.
يشار إلى أن هذا الفصل تضمن إلغاء العمل بصندوق التعاون بين الجماعات المحلية المحدث بمقتضى الفصل 13 من القانون عدد 27 لسنة 2012 المؤرخ في 29 ديسمبر 2012 المتعلق بقانون المالية لسنة 2013.
وورد في شرح الأسباب انه سوف يتم توزيع موارد صندوق دعم اللامركزية والتسوية والتعديل والتضامن بين الجماعات المحلية وفقا لمعايير موضوعية تأخذ بعين الاعتبار خاصة عدد السكان ونسبة البطالة والطاقة الجبائية ومؤشر التنمية وطاقة التداين.
لا ننسى أن مقتضيات تفعيل النظام اللامركزي كأسلوب من أساليب التنظيم الإداري هو الذي على أساسه احدث مشروع قانون المالية لسنة 2021 صندوق دعم اللامركزية والتسوية والتعديل والتضامن بين الجماعات المحلية. إذ تقتضي الترسانة القانونية الجديدة التي جاءت مع دستور 2014 ،الذي خصص بابا كاملا للامركزية وهو الباب السابع تحت عنوان السلطة المحلية والذي يتكون من 12 عشرة فصلا، و خاصة القانون الأساسي عدد 29 المؤرخ في 9 ماي 2018 الذي يتعلق بمجلة الجماعات المحلية، اعتماد جملة من القواعد القانونية وخاصة السياسية لتفعيلها.
قد يعود الصندوق المحدث بالنفع خاصة على البلديات الضعيفة على مستوى الموارد الذاتية ولكن هل أن إحداثه يعزز من استقلالية الجماعات المحلية أم أن هناك عدة نقائص تحول دون تعزيز هذه الاستقلالية وتجعل من كل تعاون تقدمه السلطة المركزية للجماعات المحلية عرقلة للاستقلالية أو فلنقل “خيرا يراد به شرا”؟
ما من إطار امثل لترسيخ اللامركزية أكثر من المالية المحلية بل يبقى احدهما رهين وجود الأخر وقد حرص المشرع صلب الفصل 126 من مجلة الجماعات المحلية على وضع الإطار العام لتصرف الجماعات المحلية في مواردها وأملاكها ” فتحرص الجماعات المحلية على توظيف مواردها وأملاكها لخدمة المصالح المحلية وفقا لقواعد الحوكمة الرشيدة والاستعمال الأجدى للمالية العمومية. تتمتع الجماعات المحلية بحرية التصرف في مواردها وتتقيّد بمبدأ الشرعية المالية وقاعدة التوازن الحقيقي للميزانية”.
إن مبدأ حرية التصرف في الموارد شديد الارتباط بمبدأ دستوري وهو التدبير الحر إذ نص الفصل 132 على أن الجماعات المحلية تتمتع بالشخصية القانونية وبالاستقلالية الإدارية والمالية وتدير المصالح المحلية وفقا لمبدأ التدبير الحر.
كما نجد تكريسا تشريعيا لهذا المبدأ من خلال مجلة الجماعات المحلية في فصلها الرابع، حيث “تدير كل جماعة محلية المصالح المحلية وفق مبدأ التدبير الحر طبقا لأحكام الدستور والقانون مع احترام مقتضيات وحدة الدولة”.
أسس واضعو دستور 2014 للاستقلالية المالية للجماعات من خلال جعلها تتمتع بالشخصية القانونية وبالاستقلالية الإدارية والمالية كما اعترفت المجلة بذلك. غير أن حرية تصرف الجماعات المحلية في مواردها يبقى رهين توفر هذه الموارد بالقدر الذي يسمح لها بممارسة صلاحياتها المتنوعة. ومن أهم العراقيل التي تحول دون توفر هذه الموارد بشكل كاف هو عدم تمتع هده الجماعات بسلطة جبائية أصلية. فضبط قاعدة الاداءات والمساهمات ونسبها وإجراءات استخلاصها يعود إلى مجلس نواب الشعب. و قد يقوم عدم الاعتراف للجماعات بالسلطة الجبائية على عدة مبررات منها مبدأ الشرعية الجبائية الذي يقتضي أن تختص السلطة التشريعية دون سواها باستخلاص الجباية أو الخوف من المس بمبدأ المساواة أمام الأعباء العامة.
إذ يمكن أن ينجر عن ذلك اختلاف في الضغط الجبائي بين المطالبين بالضريبة بحسب مكان إقامتهم أو مكان ممارستهم لأنشطتهم المهنية كما أن غياب الوازع الضريبي لدى المواطنين وضعف المشروعية التي تتمتع بها الجماعات المحلية هما من الأسباب التي يمكن أن تؤخذ كمبرر للتحفظ في إسناد السلطة الجبائية لهذه الجماعات. أما المبرر الآخر والذي اعتقد شخصيا أن فيه الكثير من المبالغة والتهويل هو خشية السلطة المركزية من أن تزاحمها الجماعات المحلية آو تنافسها في مجال مرتبط بالسيادة المالية والجبائية للدولة.
فكيف يمكن الحديث عن تدبير حر للجماعات المحلية وعن استقلالية مالية إذا كانت غير قادرة على تعبئة موارد ذاتية كافية وهي بحاجة إلى السلطة المركزية لتحقيق ذلك؟
هل يمكن أن تكون مساعدة السلطة المركزية للجماعات المحلية شكلا من أشكال ممارسة الرقابة عليها وإرادة صريحة للتحكم فيها ؟
خلافا لعدم تمتع الجماعات المحلية بسلطة التشريع الجبائي فان ضعف استقلاليتها المالية يتبين كذلك من خلال الدور الجديد والمستحدث الذي اكتسبته السلطة المركزية في علاقة بمرحلة إعداد ميزانية الجماعات المحلية والمصادقة عليها. إذ يتم إعداد المشروع الأولي للميزانية من قبل إدارة الجماعة المحلية وهو ما يوحي بتمتعها بحرية في هذا المجال وهو تكريس ظاهر لمبدأ التدبير الحر ولكن يكون ذلك بمساعدة محاسب الجماعة المحلية و هو طبقا للفصل 129 من مجلة الجماعات المحلية تابع للسلطة المركزية تقع تسميته بقرار من وزير المالية بعد إعلام مسبق لرئيس الجماعة المحلية. و من مظاهر مرافقة السلطة المركزية للجماعة المحلية في إعداد ميزانيتها إقرار المجلة ضرورة إحالة الميزانية في اجل خمسة أيام من تاريخ مصادقة مجلس الجماعات المحلية عليها إلى الوالي وأمين المال الجهوي المختصين ترابيا. ومكنت المجلة أمين المال الجهوي من طلب تفسيرات ووثائق تتعلق بالميزانية المصادق عليها.
مع تمكين الجماعات المحلية من هامش حرية هام جدا في إعداد ميزانيتها والمصادقة عليها، إلا أن دور السلطة المركزية لا يزال مهما حتى مع التخلي عن الرقابة السابقة ومفهوم الوصاية. وقد تبرر أهمية دورها بمبدأ وحدة الدولة الذي تم تكريس اللامركزية في إطاره.
* باحثة في القانون العام و قانون الجماعات المحلية.
شارك رأيك