إن مأساة اليسار في تونس تكمن في تشبث قياداته القديمة بكراسي الزعامة الوهمية والنفوذ الأجوف ومحافظتها على شعاراتها المهترئة التي لم تعد تغري أكثر الناس ثورية وجموحا إلى التمرد، وقمعها السلطوي لكل المبادرات الإصلاحية ومحاولات التغيير.
بقلم مصطفى عطية *
تغير كل شيء على إيقاع طغيان عولمة شاملة، فسقطت الثوابت وٱنهارت الإيديولوجيات وتعثرت المناهج وخاصة تلك التي أثبتت جدواها في مراحل من الزمن ولت ومضت. لكن كل هذه التحولات الجذرية العميقة لم تصاحبها مراجعات للمفاهيم والنظريات والمقاربات والسياسات لدى الأحزاب والتيارات اليسارية في بلادنا، فلم يحاول زعماؤها وقادتها و منظروها التخلص من أسر الماضي الإيديولوجي الموسوم بالنضالات الطبقية ولم يبادرو بالعمل على صياغة سياسات إقتصادية واجتماعية جديدة ومبتكرة بالشكل الذي يجعل النمو الشامل هو الهدف الأساسي لكل مسار وليس التوزيع العادل للثروات كما كان المنظرون اليساريون يبشرون بذلك في المناهج الكلاسيكية القديمة، بالإضافة إلى رفضهم الإقتناع بضرورة التعامل مع مؤسسات القطاع الخاص كرافد حيوي من روافد التنمية الشاملة، كذلك الشأن في ما يتعلق بالمسألة الدينية إذ مازال اليسار متمسكا بٱعتبار الدين “أفيون الشعوب” في حين أنه أصبح اليوم أساسيا في المعادلات السياسية ولم يعد بالإمكان إستبعاده وتهميشه وتجاهله بأي شكل من الأشكال.
جمود الأفكار واهتراء الشعارات
لم تعد وظيفة اليسارالسياسي الملتزم تختزل في تدمير الظروف المؤدية إلى المعاناة والقمع والجوع والحروب والأحقاد الراديكالية والعرقية والدينية، والجشع الذي يشبع الحسد القائم على الإنتقام، كما عرفها المنظر البولوني ليزيك كولوسكي وحفظناها عن ظهر قلب زمن المراهقة السياسية الفائرة، لكنها أصبحت تتمثل، في ظل المستجدات المتواترة بسرعة مذهلة، في توفير فرص وإمكانيات النمو والإزدهار والرفاهية، وتثبيت قيم الحرية والديمقراطية، وصيانة حقوق الإنسان وتشجيع المبادرات الفردية وٱحترام المعتقدات مع المحافظة على المبادئ الهيكلية والمضمونية للفكر اليساري كالعدالة الإجتماعية والكرامة وتكافئ الفرص.
من هذا المنظور بدت الفرصة سانحة أمام اليسار التونسي للتموقع من جديد وٱستقطاب الغاضبين والمحبطين، وقد توفرت له مثل هذه الفرص أكثر من مرة في السابق لكنه إهدرها بسبب تمسك أغلب قياداته بالقوالب الإيديولوجية الكلاسيكية، والشعارات القديمة والمهترئة، والأنماط الجاهزة، وتفضيل الإحتجاجات الشارعية والإضرابات ذات الخلفيات المطلبية على المساهمة العملية في معالجة القضايا المطروحة، والتقدم إلى الواجهة لٱقتراح الحلول المنطقية الناجعة للأزمات المتفاقمة.
اليسار السلطوي وقمع الإصلاحات
لا شك أن نجاح اليسار الإيديولوجي، خلال منتصف القرن الماضي بالخصوص، قام على أكتاف زعماء ومنظرين أحكموا التعامل مع الأوضاع السائدة، واستغلوا الأزمات الإقتصادية والإجتماعية لصياغة سياسات فاعلة وطرح حلول بديلة قابلة للتنفيذ، وهي مقاربات طواها الزمن ولم تعد تجدي نفعا في هذا الزمن الذي طغت عليه العولمة الشاملة، فلم تعد توجد طبقة عمالية كلاسيكية، كما كانت الحال في الماضي، وظهرت مهن وحرف جديدة واضمحلت أخرى قديمة، وتغيرت وظائف الإتحادات العمالية وأصبحت مطالبة العمال بالترفيع في أجورهم، مثلا، إثقالا لكاهل بقية المواطنين بمزيد من الضرائب لتغطية ذاك الترفيع في الأجور.
لم تحاول القوى اليسارية في تونس التأقلم مع الأوضاع المتغيرة والمستجدات والطوارئ، والتخلص تبعا لذلك، من مكبلات المنظومة الشيوعية التقليدية، بالرغم من وجود قوى إصلاحية بداخلها. مازال اليسار رهين شعارات “نضالية باهته” وتحركات عشوائية هجينة ضد ما دأبوا على وصفه ب”الظلم وتغول القطاع الخاص وٱنهيار القطاع العمومي وتدهور القدرة الشرائية للطبقات الكادحة”.
إن مأساة اليسار في تونس تكمن في تشبث قياداته القديمة بكراسي الزعامة الوهمية والنفوذ الأجوف ومحافظتها على شعاراتها المهترئة التي لم تعد تغري أكثر الناس ثورية وجموحا إلى التمرد، وقمعها السلطوي لكل المبادرات الإصلاحية ومحاولات التغيير.
* صحفي و كاتب.
شارك رأيك