مات الدكتور بدر الدين علوي إثر سقوطه في مصعد بمستشفي جندوبة ! قرأت الخبر في ساعات الفجر الأولى من يوم الجمعة الماضي فتملّكني إحساس مُربِكٌ لا أظنني أحسن وصفه… هو مزيج من الحزن و الغضب و النقمة و اليأس و الخوف… نعم الخوف و الفزع… و الإحساس بالغبن…
بقلم الدكتور توفيق نجاحي *
سقط في مصعد؟! في مصعد!؟ الخبر لا يكاد يصدق…
حاولت ان أعود للنوم و لكنني كلما حاولت أن أغمض عيني تمثل لي المشهد فأفزع و أهرع للنافذة أطلب بعض الهواء النقي عساه يخفف بعض الاحساس بالاختناق.
في مصعد؟! يا لها من نهاية حزينة لقصة كانت بدايتها جميلة…
و لأنني مررت بمراحل تكوين طبي بحلوه و مره لم يكن صعبا عليَّ أن أتخيل بداية القصة… تخيلته و هو يجتاز امتحان البكالوريا بامتياز و يَفرَحُ و يُفرِحُ كل من حوله بالنجاح و بالتوجه لدراسة الطب… الحلم الذي راوده و راود أهله من سنين… و تخيلته في سنوات الدراسة التي تأخذ منه بواكير سنوات شبابه… فالدراسة في الطب تستهلك جزءا من العمر… و تخيلته وهو يعكف على التحضير لمناظرة التخصص الصعبة المستهلكة للصحة و الجهد و المال… وتخيلت الفرحة الكبيرة التي غمرته و كل عائلته و هو ينجح مرة أخرى … و يتفوق و يتحصل على التخصص الذي طالما حلم به و هو التخصص في الجراحة… التخصص في الجراحة لا يناله الا المتفوقون…
ثم تخيلته و هو يمسك المشرط أول مرة فتصيب يدَه ارتعاشة يصاحبها تسارع في دقات القلب و تصبب عرق … و لكن كل ذلك يزول حين يسمع صوت أستاذه الجراح الواقف خلفه يسنده و هو يأمره بشدة فيها بعض القسوة المقصودة… فيد الجراح لا يجب أن ترتعش أبدا…
و تخيلته و الجميع يحتفل به في قاعة الاجتماعات لنجاحه في القيام بأول عملية جراحية كاملة من أولها الى آخرها… و تخيلته و هو يتسلل بين الزملاء ليهاتف عائلته ينقل لها فرحته فترتسم أسارير الفرحة و الفخر على وجوه الجميع.
و تخيلته و الخبرة التي بدأت كحبة قمح صغيرة بدأت تنمو لتنشأ منها سبع سنابل… ترجو كل سنبلة ان تثمر مائة حبة أو تزيد… و الله الموفق…و في كل يوم كانت الحبات تظهر… كان في البداية يعدها… ثم بدأت تكثر و تكثر حتى استغنى عن عدّها…
ثم تخيلته و هو يدخل القسم مسرعا … يغير ثيابه و يرتدي بدلة غرفة العمليات بسرعة… فالمقيمون في تخصص الجراحة دائما على عجلة من أمرهم لكثرة مشاغل العمل لديهم… و تخيلته وهو يعطي توصياته للمتربصين معه بخصوص المرضى المقيمين في القسم … ثم يتوجه نحو المصعد…
ينفتح باب المصعد و يدخل ممرض يقود كرسيا متنقلا … وهو مازال بعيدا نوعا ما… فيسرع الخطى ليدرك باب المصعد قبل ان ينغلق… يضع رجله اليمنى… و لكن المصعد المرتبك في عمله منذ سنوات لغياب الصيانة يأخذ في الصعود إلى أعلى قبل أن ينغلق الباب… كان ذلك مفاجأة له و لم يتوقعها… ترنح جسمه… حاول ان يتماسك ليعود للخلف أو ليلقي بنفسه داخل المصعد و لكن الأمر كان أسرع من أن يستوعبه ذهنه الذي كان منشغلا ببرنامج العمليات الذي كان ينتظره.
هكذا وأدت لحظات قليلة حلما عاش سنوات كي يتحقق… و لم يتحقق… و هكذا قُطِفت السنابل السبع قبل ان تُثمِرَ وتُنبِتَ كل واحدة حباتها المئة…
رحمك الله أيها الزميل الذي لم نعرفه و لكن وفاته أثرت فينا أكثر من كثير ممن عرفناهم و تأثرنا لغيابهم … و إنا لله و إنا إليه راجعون…
* طبيب مختص.
شارك رأيك