يصحح الكاتب في هذا المقال ما نسب من كلام للمصلح خير الدين باشا هو في الواقع مقتطع من طرف هذا الأخير من كلام نائب في البرلمان الفرنسي في عصره استشهد به في سياق كلامه.
بقلم الدكتور المنجي الكعبي
نشر صديقنا الأستاذ الطاهر بوسمة الغني عن التعريف كلاماً نسبه كلّه الى الجنرال خير الدين باشا وختمه بقوله «انتهى المنقول من الكتاب».
وهذا الكلام الذي ساقه من الكتاب دون فواصل دقيقة وعناوين فرعية كما جاء في نشرته التي اعتمدها تُوهم بأنه من أوّله الى آخره لخير الدين. والواقع أنه تنصيص بفقرات عديدة، من كلام أحد النواب الفرنسيين، يستشهد فيه صاحبه بتاريخ أنظمة الحكم المتعاقبة بعد الثورة الى عصره، في إدانة واضحة للنظام الفردي المطلق التي اتسم حكامه به على تعاقبهم بين ملك وإمبراطور، وينتهي كلام هذا النائب في فقراته المتعددة الى قوله في هذه الفقرة: «و قد ختمت هذا التاريخ الطويل المستوعب لأحوال نصرنا وانهزامنا، بهذه النصيحة بل الصيحة الصادرة عن صميم فؤادي، راجياً بلوغها إلى قلب كلّ فرنساوي، ليتيقّن جميعهم أنّه لا يليق بهم بذل حرّيتهم إلى أحد، كما لا ينبغي لهم الإفراط فيها حتّى تنتهك حُرمتها».
وهي الفقرة الأخيرة من كلام هذا النائب الفرنسي، بعدما افتتح كلامه بقوله: «تعالوا نُمعن النظر في أفعال هذا الملك (يقصد لوي فيليب) التي هي في الحقيقة أفعالنا، فيستفيد منها من كان جنديّا كيف ينبغي أن تقاد الجيوش، ومن كان من رجال الدولة معرفة كيف ينبغي أن تكون إدارة المملكة، وكيف ينبغي أن يرتفع شأنها بدون خروج عن دائرة التواضع والرفق، إذ المعاملة متى لم تكن مصحوبة برفق وقناعة لا تتحمّل، وربّما يفضي ذلك إلى أسباب الاضمحلال، كما أفضت إليها سيرة المذكور (يقصد نابليون) الذي هو أقلّ البشر قناعة».
وعلى ذلك فليميّزْ القارئ في الكلام الذي نقله صديقنا الأستاذ الطاهر بوسمة كلامَ خير الدين الذي افتتح به، وكلامه الذي اختتم به نقله من كلام هذا النائب الفرنسي بقول خير الدين في آخر الفقرات: «انتهى المراد منه» أي من كلام النائب الفرنسي المستشهد به على مدى الصفحات السابقة.
لأن الأستاذ بوسمة عوّض تلك الكلمات الثلاث الأخيرة لخير الدين وهي «انتهى المراد منه» بقوله هو: «انتهى المنقول من الكتاب».
وبذلك تداخل على القارئ ما هو من كلام خير الدين وما هو من كلام تيارس (النائب الفرنسي)، لأن الفقرة المتعلقة بحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه وكذلك الكلام المتعلق بكلام الحكيم أرسطو هو اقتباس جديد لخير الدين من كلام المسلمين وما نقله علماؤهم عن حكماء اليونان في كون الشريعة لا يمكن بحال أن يعوّضها حكم فردي مطلق ملكي أو إمبراطوري.
لأننا يجب أن نتذكر أننا بإزاء رجل دولة مسلم يقرر من حقائق الأمور ما هو الأنسب للشريعة الإسلامية، التي يؤمن مثله مثل ابن أبي الضياف في حديثه عن النظام الجمهوري أنه لا بدّ منها في بلاد الإسلام، أو حسب لفظ خير الدين نفسه: «من الغلط الفادح أن تعوّض الشريعةُ بشخص يتصرّف بمقتضى إرادته».
ويجب أن نتذكر هنا أن خير الدين يقرر في كتابه مزايا مختلف أنظمة الحكم ويعتبرها كلها أنظمة ونظريات سياسية واجتماعية لها اعتباراتها، ولكن لا يخلو بعضها عند التطبيق من التطرف أو الانحراف بأصلها، كالنظام الديكتاتوري اذا ما رفض صاحبه ما شرط عليه به عند اللجوء اليه كحاكم مطلق، كحل لإنهاء الفتنة الداخلية في مجتمع بعينه، وكالنظام الجمهوري إذا ما اقتبسته دولة للحكم في مجتمع موحد العقيدة، كتونس في ظل ملكيتها القائمة، وليس كالمجتمع الأمريكي الذي أخذ أرباب السياسة فيه بهذا النظام فيه لاختلاف أقوامهم دينا وعرقا.
وهذا ما ناسبَنا التعليق به على تحقيق زميلنا الاستاذ المنصف الشنوفي لفهمه غير السليم لموقف خير الدين من النظام الديكتاتوري في كتابه هذا، أقوم المسالك، حتى قال إن خير الدين كان يحبّذ النظام الديكتاتوري وتكلم عنه بإطناب. ولكن دون ملاحظة أنه كلام لا لذات المدح ولكن لأنه نظام سياسي كبقية الأنظمة، ولم يهمل وقتيته ووجوب تجاوزه اذا انتفت أسبابه وهي الضرورة القصوى، ولظروف محددة ينتهي بانتهائها هذا النظام الاستثنائي للعودة بالمجتمع بعد إخماد الفتنة الى النظام العادي.
وكذلك تعليقنا على ما ذهبت اليه اللجنة التي تولت بإشراف وزارة الثقافة آنذاك تحقيق الاتحاف من أن المؤرخ ابن أبي الضياف ناقض نفسه، فبعدما حبّذ النظام الجمهوري في الولايات المتحدة الامريكية عاد للنصح بعدم الأخذ به، وفسرت اللجنة في تعليق لها بالهامش أن هذا الموقف مواراة من المؤلف عن رأيه خشية من سطوة الملك عليه.
والصواب، لا تنزيهاً لابن أبي الضياف من هذه التهمة الخطرة في حقه، ولكن لأنه بالرجوع الى كلامه السابق عن النظام الجمهوري هو إقراره في موضع بمشروعية هذا النظام الجمهوري في المجتمعات المتعددة الأعراق والأديان، وعدم اللجوء للأخذ به في مجتمع وحيد الدين والعرق كالمملكة التونسية في عهده أو الخلافة الاسلامية في جملتها لأن الشريعة بقوتها تحسم كل تنازع على السلطة.
تونس في ٢ جمادى الأولى ١٤٤٢ ه – ١٧ ديسمبر ٢٠٢٠ م
شارك رأيك