عملاً بوصية والده المدونة في ذيل مذكراته نشر الدكتور عبد الرحمان الأدغم منذ سنة مذكرات والده المرحوم الباهي الأدغم كاتب الدولة للرئاسة والدفاع الوطني لمدة بورقيبة الأولى في الحكم، تشبهاً بالنظام الرئاسي الأمريكي قبل الانكفاء بعد أزمة بن صالح والتعاضد في أوائل السبعينيات للتشبه بالنظام الفرنسي بمجلس وزراء يرأسه هو ووزير أول يعينه ويعفيه دون رجوع الى سلطة تشريعية أو غيرها.
بقلم الدكتور المنجي الكعبي *
والدكتور الأدغم الذي تولى وزيراً بعد الثورة عن تكتل بن جعفر في حكومة الترويكا التي يرأسها حزب النهضة المعارض الأبرز لنظام بورقيبة وخليفته لم يبطئ بنشر المذكرات بل أصحبها بالوصية كالمؤتمن على تنفيذها حرفياً وهو عدم النشر «إلا في حالتين متلازمتين – كما يقول صاحبها – الأولى بعد وفاة بورقيبة أو خروجه من سجنه، والثانية مغادرة الانقلابي للحكم…». والمقصود بالانقلابي كما هو واضح المخلوع بن علي.
وهو إنما يقول «الانقلابي» لأنه لم يتصور فكرة المخلوع من الحكم بثورة شعبية عارمة. فاستعمل العبارة الدستورية، وهي المغادرة من الحكم. وهذا طبعاً ليس من تشوّفه للمستقبل أو تمنّيه أن تقوم على «الانقلابي» ثورة تطيح به وتعيد النظام الجمهوري الى طبيعته. ودون أن يحتمل أن يكون «الانقلابي» قد أنقذ البلاد من حكم فردي متهاوٍ ويقودها الى وضع أفضل وديمقراطية، وفي الأدنى، تقمص دور المستبد العادل بسلطة عسكرية وبوليسية صارمة وظالمة أحياناً لاستتباب الأمن وعودة الاستقرار، ولو بشعارات كالتي التي رفعها في بيانه الأول، وهي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا ظلم بعد اليوم.
حول مغادرة الانقلابي للحكم
واستعمل الوصف التحقيري، رغم أن الرجل ليس بالغريب عنه، فقد كان صهراً لأحد أكبر جنرالات الجيش الوطني بعد الاستعمار، وكان الصهر يتولى مهام حساسة في الاستعلامات تحت إمرته في الدفاع الوطني لسنوات طويلة. ورئيسه الأعلى بورقيبة هو الذي مكنه من الحكم المدني، ورقاه، ووضع مقاليد الدولة والحزب كلها بين يديه، وصعّده كالطرادة الى المناصب العليا، فلم ينقلب من ذاته أو من ثكنته عليه. وكل ذلك لتأمين حياته لما تناوشت الأيدي خلافتَه الدستورية. أي كأنه بوبّه لما كان القدر بوبه اليه.
وإذا فهمنا حالة مغادرة الانقلابي للحكم، فكيف نفهم حالة «خروج بورقيبة من السجن». أولاً هل كان المرحوم يردد في داخله فقط أن بورقيبة مسجون، وليس مجرد مقصًى من الحكم أو مخلوع، وهو الأهم، لأن الدستور كان واضحاً في بقائه رئيساً للجهورية مدى الحياة. وهنا مخالفة دستورية واضحة، لأن الوثيقة الطبية عن العجز التي طبقها الانقلابي عليه هي فصل آخر يطبق على من بعده لا عليه. وكان ينبغي أن تكون محل إدانة منه في الحياة لا في مذكرات. ولا نعتقد أنها كانت تكلفه حياته لو صرح بها، وإنما يحفظها له التاريخ كمناضل وجريء في الحق.
ولا أريد أن أذكّر بمناسبة مشهودة، هي ندوة نظمتها جمعية القانون الدستوري بالقاعة الكبرى بكلية الحقوق، التي كان يرأسها العميد عبد الفتاح عمر، وحضرتها لصداقتي به ومعرفته بمداخلاتي النيابية والحزبية المنشورتين في كتاب، ولكن أيضاً للاستماع الى شهادات بعض الوجوه البارزة، الذين يكاد لم يتخلف منهم وجه، حتى المقعد على كرسي مرضه شارك في الندوة، للإدلاء كلّ بدلوه في موضوعها، وهو «الشرعية الدستورية لتغيير السابع من نوفمبر».
ومفاجأتي كانت كبرى لأنني التقيت هناك بوجوه كنت أعتقد أن أجدها متحفظة على الأقل في هرولتها الى النظام الجديد ومباركة الثورة الى حد تسميتها بالثورة الزينية! حتى أنني لا زلت الى الآن أذكر الرد الذي واجهني به الدكتور الصادق المقدم، الذي قلت له في وقفة استراحة بين المحاضرات، في جمع من وجهاء السياسيين المخضرمين ومنهم السيدان الباهي الادغم وأحمد المستيري: لو كنت سيدي الرئيس رئيساً للمجلس هل كنت تقبل الوثيقة الطبية باللغة الفرنسية. فقال لي: أنت ما زلت هنا؟ وأشاح بوجهه عني، كالمُوهم غيره بأنه لم يستمع الى ما قلته ومتابع فقط ما يدور من حديث بين المتنافسين من كبار الحاضرين لأخذ الكلمة بالمنصة في الدفعة التالية. فبقيت مع اعتراضي على التغيير بهذه الحجة الشكلية لا محالة التي لم تخطر على بال أحد أن يرفعها في وجه صاحب التغيير، ولو من باب تصحيح الوضع اللغوي للوثيقة احتراماً للدستور.
ولم يثنني ذلك عن الإصداع بموقفي من هذه الوثيقة الطبية، التي أصبح الجميع من المعارضين لنظام الزين يشهد بكونها مفتعلة تحت الضغط والتهديد، في ندوة فكرية عُقدت في قبة البلفيدير، تمهيداً لمؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري الذي أفضى الى تغيير اسمه أملاً بالديمقراطي، فما أن أنهيت محاضرتي وكانت بعنوان «المثقف والسلطة» وفيها توقفاتي الدستورية بشأن التغيير، حتى تلقّفت الأيدي بعض نسخ منها ومنها يد المتحمس الاكبر آنذاك الأستاذ عزوز الرباعي الذي قام لتوّه للرد عليّ مفنداً لمزاعمي حسب قوله، ودعوى أنني مواصل على ضلالاتي النيابية والمركزية في الحزب.
أما التعليل بمغادرة الانقلابي للحكم بقوله: «لأني لا أريد أن أعطيه الفرصة ليقول، هو ومن تبعه ممن استولوا على الدولة، بأن ما وقع لتونس هو عملية إنقاذ، بينما تبين أن ما وقع هو عملية مدبرة منذ بداية الثمانينات للتمركز وخلق جو من الرعب واستعمال هاجس بورقيبة بخصوص استمرار الدولة ومناعتها مهما كان الثمن ولو بإراقة الدماء، ثم الانقضاض على مفاصل الدولة والحزب الذي أصبح أداة قمع، لا تعبئة سياسية سليمة، وإعطائه اسمًاً ثالثاً، فبعدما كان حراً أصبح اشتراكيا ثم ديموقراطيا».
فهذه الفرصة أعطاها له رغم ما قاله، لأنه ألزمه الصمت، ككثير من السياسيين لاذعوا مثله بالصمت للذهول وربما طلباً للسلامة، وتركوا الشعب وحده يتحمّل إنتاجهم من رجالات في السلطة، هم كانوا قدوتهم وتربيتهم وتكوينهم وثمرات أيديهم… لا فقط كأكبر أعضاد بورقيبة، ينام ويستيقظ دون إزعاج.
مذكرات أو تلميع لتاريخ نضالي شخصي ؟
على أن وجوهاً لا تقل بورقيبيّة عنه، من أمثال الباجي قائد السبسي وحسيب بن عمار وعزوز الرباعي وحمودة بن سلامة والحبيب بولعراس وفؤاد المبزع وحامد القروي والهادي البكوش ومحمد الناصر، حتى لا نذكر غيرهم كثيرين، وقبلهم الصادق المقدم والهادي نويرة، ساندوا بن علي وأيدوا تغييره، وولاّهم السلطة وولى أبناءهم وأصهارهم ومعارفهم مسؤوليات عليا ووزرات ورئاسات للمجالس النيابية والتشريعية وسفارات وغيرها.
وقبل سقوط بن علي بعد ثلاث وعشرين سنة من الحكم، كانت أصوات كثيرين من بين المعارضين الحزبيين والمستقلين ترتفع لانتقاد تعديلاته المتتالية على الدستور والقوانين لتأبيد حكمه، فإذا كانت بعض الكتابات بعد سقوطه تتحدث عن مواقفها من سلبيات نظامه في مذكراتها، فمن المستبعد أن يأخذها القراء مأخذ المواقف الفاعلة في حينها والتي كانت تلقى التضييقَ عليها وعلى أصحابها.
أما قوله في الوصية «إن كل ما كتبته عن بورقيبة فهو ناتج عن إيماني بقول الحقيقة لفائدته، وهو في بعض الاحيان يَظهر تحاملاً عليه»، فهل لأن بورقيبة بعد خروجه من السجن لم يعد يُخشى كما كان رئيساً، مثله مثل الميت لا يرد فعلاً إذا قال فيه قائل شيئاً حتى من باب ما يظهر من التحامل عليه؟ وما فائدة قول الحقيقة له لفائدته؟ وهو إذا لم تقل له في حياته ليستفيد منها تكون بعد حياته لاغية.
فإذا كانت السيرة التي جرى عليها السيد الباهي الادغم هي سيرة رجالات بورقيبة عامة، الذين طاولوا في مدة بقائهم في الحكم الى جانبه، لا كالبشير بن يحمد أو الأمين الشابي أو محمد المصمودي أو الطاهر بلخوجة والوزراء المستقيلين الستة في الأزمة النقابية بزعامة الحبيب عاشور وغيرهم، تكون مذكراتهم خالية من الصدى، كالتغريد في القفر الخالي، وربما صُرفت لتلميع صورتهم الى جانبه كما فعل هو لتلميع تاريخه النضالي على حساب أكفائه.
* باحث جامعي و نائب سابق.
شارك رأيك