بالرغم من شدّة برودة طقسها في فصل الشتاء، مدينة جندوبة الواقعة في شمال غرب تونس على الحدود الجزائرية وفي نهاية تخوم جبال الأطلس التلي العالية، حيث تعشش كل قصص النسيان وروايات الضياع، تختارهذا الفصل الراعد لتلقي بكل أوجاعها الثقيلة على رؤوس من وعدها بالنصر القريب ثمّ خان العهد وهرب… وتطلق صوتها المسجون فيسرد بالصمت… فينتشر صداه في كل زوايا الوطن…
بقلم رياض بوسليمي *
بالأمس كان يوم إضراب عام (11 ديسمبر /كانون الأوّل 2020)، شهدت خلالها المدينة هبة لم تشهد لها مثيلا من قبل… كان شارعها الرئيسي ذات الشارع الفسيح الممتد شاهدا على جحافل المتظاهرين الذين وصلوا باكرا إلى ساحة اللقاء… كانت أصواتهم حرة مجلجلة يهتفون بالفداء لجندوبة ويطالبون بحقوق الجهة في التنمية وأعناقهم مشرئبة تنظر إلى الأفق البعيد المطل بين أشجار النخيل الباسقة وبنايات عالية شيدت مؤخرا على جانبي الشارع، وقد بدا مشرقا بالرغم من تلوّنات موسم الفواجع وتقلباته المفاجئة.
إنّه شارع الثورة ولا ريب… ذاكرته حافلة بصدى أصوات الثائرين والغاضبين طيلة عشرية كاملة… لم تهدأ خلالها حناجر المطالبين بالتغيير وبحق أهالي الجهة في مستوى عيش يضمن حد أدنى من الكرامة… لذلك غدا قلبا نابضا في جسد المدينة، منه تضخ رسائل المطالب والنداءات لكل الحكومات التي تعاقبت منذ فجر ثورة الياسمين، يؤمه المحتجون من كل حدب وصوب … من الأرياف والدواوير ومن المدن والقرى … هو ساحة عامة لنشر الوعي في صفوف الجماهير التي قد تنسيها حاجيات اليومي مسؤوليتها تجاه وطن مازالت جروحه تنزف لم تندمل بعد… وإلى يوم الناس هذا، ظل هذا الشارع الشاهد نهاية مسار ينطلق من مقر الإتحاد الجهوي للشغل لينتهي أمام مقر الولاية أو نصب الساعة، هذه الساعة، ظلت معطبة منذ عقود وكأني بالوقت لم يعد يعنينا هدره…
حين تنظر إلى هذا الشارع في سائر الأيام تقرأ في وجهه علامات الضجر والصمت الكئيب… وكأنّي به يتألم دون صوت… يريد الكلام ويكره أن يذهب قوله سدى أدراج الرياح… بلا فائدة… ينتظر الشتاء ليلتقي بالأوفياء للوطن ويقول كلمته الحارقة التي ظل يحبسها تحت غطاء الصمت السميك… فينتفض كأسد غاضب يمتد زئيره في المدى الكبير، وينادي بالانتصار لكل السنين الماضية ولحقوق جهة ظلت مجرد شعارات تكتب بحبر الوعود الزائف على ورق شفيف ولغة سمجة تنطق بها أفواه السياسيين في حملاتهم الانتخابية المحمومة وتبقى معلقة على جدران النسيان، يعبث بها الريح وتمر السنين وتتغير الأحوال ولا ترى النور…
وفي هذا الفصل أيضا يخرج الكتاب والشعراء والمفكرون عن صمتهم، فينثرون حروفهم كأوراق الورد الملوّنة بألوان قوس قزح على المدى… فتنشر أعمالهم الإبداعية والثقافية التي عانت من هجير الصيف وموسم العودة المدرسية والجامعية وتختار البروز والخروج من دفاتر السبات الطويل… فتعانق النور وتستأنس بأكف اللقاءات الدافئة… ولا غرابة إذا أن يصفها المتابعون للشأن الثقافي في بلادنا بالمدينة التي تعبق شعرا وأدبا…
* ناشط مستقل.
شارك رأيك