أعتقد أنّ معركة الصلاحيات الجارية يبن الرئاسات الثلاث والناجمة عن دستور 2014 أعادت هذه الأيام الخوض في مدى نجاعة النظام السياسي القائم وطرح فكرة تعديله بقوة لتمكين جهاز واحد من الحكم ومن ثمة محاسبته وتحميله المسؤولية. وعلى هذا المستوى يبقى التاريخ دائما مجالا حيويا وضروريا لبلورة مواقف موضوعية وعقلانية ورصينةٌ لتحديد مصير البلاد ومستقبلها.
بقلم محسن بن عيسى *
فشل النظام الجديد
لقد عرفت تونس عديد المؤسَسات النيابية سواء قبل الحماية أو بعدها، كالمجلس الكبير سنة 1861 والهيئة الاستشاريّة سنة 1910 والمجلس الكبير سنة 1922 وكذلك الغرف الاقتصاديّة التي دعم صلاحياتها المنصف باي 1942-1943، أمَا بالنسبة إلى الرصيد الدستوري، فقد كان دستور تونس لسنة 1861 أول دستور في العالم الإسلامي، وذلك قبل تركيا 1876، مصر 1879/1882، إيران 1906، سوريا ولبنان 1920، أفغانستان 1923، العراق 1925، السَعوديّة 1926، الأردن 1929. وعاشت البلاد على هامش دولة الاستقلال الولادة العسيرة لدستور جوان 1959.
يجب أن نكون واضحين، لقد صاغت الدولة التونسية ومن خلال نظامها حتى 2010 هوية البلاد وتركت بصماتها في المسار الوطني النضالي والسياسي والتنموي رغم بعض الثغرات وحالات الخوف والاستبداد. في حين وجد النظام الجديد المعتمد منذ 2011 صعوبة في الحفاظ على الوفاق الوطني وتعبئة وتثقيف الشعب، وتطوير القيم والمؤسسات وخاصة تحقيق الهدف الرئيسي أي ضمان مقومات العيش الكريم للمواطن.
لقد جعل هذا النظام البلاد رهينة إدارة الأحزاب للشأن العام، وهي تجربة مأخوذة عن واقع مخالف لواقعنا وتحتاج الى أحزاب قوية أرست قيمًا في التفاعلات السياسية وتاريخ ممتد في التجربة الديمقراطية.
وليس غريبا في ظلّ هذا الواقع أن تتسلّل تيارات ماضوية وشعبوية إلى جهاز الدولة والمؤسسات الدستورية، وتسعى بكل الطرق والوسائل الى صياغة النظام وسير الحياة بالبلاد على مقاس طموحاتها وتصوراتها والتي أثبتت تجربتها أنّها دون انتظارات الشعب صاحب المصلحة والمستفيد الأول من أي إصلاحات أو تحولات.
لم يستوعب الكثيرون الدرس
لدينا للأسف من يؤمن بـ “الفكر الماضوي” ويتمنّى لعقارب الساعة أن تعود إلى الوراء ويرجع الماضي ويتوقف فكر التطور. لقد اختار هذا الفكر بعض المتزمتين والرجعيين في شكل تيار يقصي الآخر العقلاني، ويعمل على النيل من خصومه من وراء الأستار. وهناك أيضا من جرفه تيار الشعبوية التي تعتمد الخطاب السياسي الموجه إلى عامة الشعب والقائم على انتقاد النظام والنخب دون برامج واقعية قابلة للإنجاز.
إنّ إلقاء مسؤولية التراجع الاقتصادي والسياسي والانحدار الفكري والقيمي الذي نعيشه لحقبة ما قبل 2011 هو مرتكز لا تستقيم به الحجّة، فلنا مآخذ تخص هذه الحقبة ولكن ليس على مستوى تشويه العقل التونسي والمساس بمقومات الهوية والشخصية الوطنية.
إنّ استعادة الدولة بمفهومها السيادي ليست مجرّد أمنية وإنما هي ضرورة حيوية، ومسؤولية يتقاسمها الجميع. و إذا كانت السيادة تعني أن سلطة الدولة هي سلطة عليا، فهي تعني أيضا عدم القبول بوجود أي سلطة أعلى منها أو موازية لها، فهي تسمو فوق الجميع وتفرض ذاتها. العمل الكبير المطلوب أن يتحرّر الشعب من وهم الترتيبات التوافقية وتقاسم السلطة ويعرف طريقه، فيوحّد نفسه ويسير لتحقيق أماله دون تجييش للشارع أوالمساس بالمكاسب الوطنية.
لقد كان من مقتضيات الحزم السياسي وبعد النظر ألاّ تؤول الأوضاع إلى ما آلت إليه. فالدول لا تسقط بسبب واحد، بل تتجمع عدة أسباب لقيامها، وعدّة أسباب لتدهورها وسقوطها وأبرز العوامل التي تراكمت لدينا استبداد الفوضى والقفز فوق القانون واعتماد نموذج المناورة والإبعاد والإقصاء عوضا عن الاستيعاب والإحتواء.
لم يستوعب الكثيرون الدرس مما يجري في بعض البلدان العربية نتيجة لغياب أو تغييب الدولة وتجريدها من قوتها، وجعْلها تحت رحمة الميليشيات واللوبيات وفي خدمة أطراف بعينها. هناك حاجة للإسراع برأب الصدع في العلاقة بين شريحة كبيرة من المواطنين والمؤسسات الرسمية.
شئنا أم أبينا فالدولة تعيش حالة كاريكاتورية، والسؤال المطروح متى ستنتهي معركة الصلاحيات واعتماد النظام الأصلح للبلاد؟
* العقيد المتقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك