بعد مرور أكثر من شهر على حادثة وفاة الطبيب المقيم في الجراحة العامة بدر الدين العلوي وتحديدا يوم 4 ديسمبرالمنقضي إثر استعماله لمصعد معطب بالمستشفى الجهوي بجندوبة مما أدى لسقوطه من علو شاهق فقد بقيت دار لقمان على حالها رغم التزام وزارة الصحة ومسؤوليها برصد الاعتمادات والشروع في الصيانة فورا حيث يحتوي هذا المستشفى على 8 مصاعد لا تزال كلها خارج إطار الخدمة إلى هذا اليوم مما اضطر الإطارات الطبية والشبه الطبية الي حمل المرضى ونقلهم على متن أسرتهم عبر الدرج في خرق تام لكل قواعد السلامة – هذا بالإضافة الى ما يتسبب فيه هذاالإجراء من تعطل للسير العادي للخدمة الصحية إِبَّانَ وضع وبائي منفلت.
بقلم طه عبد القادر العلوش *
يوم غضب ثم ماذا بعد…
أثبتت هذه الفاجعة صدقية الإشكاليات المطروحة من قبل الأطباء الشبان في الآونة الأخيرة فبحيث صار تحسين ظروف العمل وتوفير الحد الأدنى من المستلزمات الأولية ضرورة قصوى.
في نفس هذا المضمار أدت وفاة المقيم في الطب بدرالدين العلوي بتلك الطريقة المأساوية أثناء قيامه بالواجب المهني إلى إشعال شرارة غضب عارم لدى زملائه الشبان مما زاد في طوقهم لتغير السياسات العمومية في المجال الصحي بعد أن نخرها الفساد وسوء التصرف لسنوات عديدة.
وقد عبروا عن مطالبهم المشروعة بمسيرة حاشدة انطلاقا من كلية الطب بتونس الى حدود ساحة الحكومة بالقصبة ضمت جميع الأسلاك الطبية وشبه الطبية العاملة بالقطاعين العام والخاص في مشهد وحدة نادر الحدوث في بلادنا في هذه الفترة.
تم تتويج هذا الحراك باستقبال وفد ممثل للمنظمة التونسية للأطباء الشبان على جناح السرعة من قبل رئيس الحكومة هشام المشيشي، حيث أذن هذا الأخير بإحداث هيئة وطنية لإصلاح المرفق الصحي العمومي تضم مختلف الأطراف المتدخلة على أن تحدد تركيبتها وأهدافها بشكل تشاركي خلال الأسابيع القادمة.
لجان تسويفية لغياب الإرادة السياسية
لا تعدو هذه الوعود الحكومية واللجان الإصلاحية متعددة الأطراف إلا أن تكون ذرا للرماد في العيون حيث باتت منهجا معتادا لكل الحكومات المتعاقبة لقبر القضايا الحارقة وإخماد مهجة الإصلاح العميق ليبقى الهدف الرئيسي من هذه المناورة هوامتصاص فورة الغضب والامتعاض لاسترجاع النسق العادي لعمل المستشفيات وتأمين حصص الاستمرار – طبعاً هذا في انتظار الحادث القادم لبعث لجنة جديدة واستدامة حالة العبث بالدوران في هذه الحلقة المفرغة.
إن غياب الإرادة السياسية يعد من أبرز معوقات الإصلاح ويلوح هذا جليا من خلال التلكؤ في تطبيق مخرجات الحوارات والاتفاقيات السابقة فمثلاً مشروع قانون المسؤولية الطبية وحقوق المرضى لا يزال يراوح مكانه في أدراج البرلمان منذ سنتين على أقل تقدير في حين أنه كان سيساهم في خفض منسوب التوتر عبر توفير مناخ من الطمأنينة خاصة وأنه يضمن الحقوق ويحدد الواجبات بين جميع الأطراف على حد السواء.
جيش أبيض بدون عتاد
نظراً لانعدام الصيانة وضعف الاستثمارخلال العشرية الأخيرة أصبحت البنية التحتية متردية بأغلب المؤسسات الاستشفائية بالبلاد التونسية حتى باتت ممارسة المهنة فيها أقرب لطب الحرب من أي شيء أخر لتزيد جائحة الكورونا من تعميق هذه النقائص وتكشف عورتها للعموم باعتبار الضغط المستمر المسلط على النظام الصحي طوال السنة الأخيرة مما يستوجب تدخلاً سريعاً للدولة عبر بذل مجهود إضافي بالترفيع في ميزانية وزارة الصحة ضمن قانون الميزانية التكميلي لسنة 2021 فالإشادة بالمجهودات المبذولة والعرفان نعم يكفيان لرفع المعنويات ولكن إلى حين.
شبح العنف يطل برأسه من جديد
وما زاد الطين بلة معاناة الأطباء الشبان طيلة السنوات الأخيرة من اعتداءات متكررة أثناء عملهم من قبل مرافقي المرضى ولعل اخرها ما حادث لطبيبتين بمعهد الأعصاب منجي بن حميدة بتونس من تعنيف وترهيب إلا دليل على تصاعد هذه الظاهرة وتناميها مما يجعل من توفير الحماية للطاقم الطبي أثناء إسداء العلاج بمراكز العمل على رأس المطالب المشروعة – كما أن هذا التأمين سيمكن الدولة من الحفاظ على مقدراتها من مباني وسيارات إسعاف وتجهيزات طبية باعتبار التكلفة الباهظة لتهشيمها على المجموعة الوطنية.
جزاء سِنِمّار
في ظل قلة الإمكانيات المتاحة يتصدر الأطباء الشبان إلى جانب بقية الإطار الشبه طبي الخطوط الأمامية في مجابهة جائحة كوفيد 19 وإن كان ذلك واجبه محتماً إلا أنهم برهنوا من خلال مثابرتهم وثبات عزيمتهم في التكفل والعناية بالحالة الحرجة عن روح وطنية عالية ونكران للذات منقطع النظير حيثأ نهم يعرضون أنفسهم في أغلب الأحيان لخطر العدوى و من ورائهم عائلاتهم وذويهم أيضاً بسبب النقص الفادح في وسائل الحماية الفردية في المقابل تكافئهم الدولة بعدم خلاص المتعاقدين منهم في إطار مكافحة وباء الكورونا رغم توفر اموال مخصصة للغرض في صندوق 1818 – ثم يتساءل البعض عن الأسباب الجوهرية لهجرة الكفاءات الطبية إلى الخارج.
إن تشخيص الهينات الهيكلية ووضع التصورات الكفيلة بمعالجتها دون المرور الفعلي للإصلاح الموجع يقود مباشرة لتعميق الأزمة وتأبيدها فلتكن روح هذا الطبيب الزكية أول لبنة في جدار النهوض بالصحة العمومية والشمعة التي تنير الطريق نحو تغيرالمنظومات المتكلسة حتى نتمكن سوياً من رفع تحديات المستقبل وفقاً لمبادئ وأسس الحوكمة الرشيدة.
* طبيب وناشط سياسي.
شارك رأيك