مخطئ من يعتقد أن المأزق السياسي الحالي في تونس والناتج عن الصراع الدائر بين مؤسسات الدولة من برلمان و رئاسة و حكومة وليد الماضي القريب أو نتاج لمنظومة 2019 بل هو في الأصل نتيجة تراكم لأزمات خير المتنافسون فيها المرور “للتوافق” الكاذب. و ذلك بداية من انتخاب المجلس الوطني التأسيسي عام 2011 و تواصلت بعد انتخابات 2014 و 2019.
بقلم وسيم بوثوري *
تعيش تونس على وقع مأزق سياسي ودستوري لم تشهد له مثيلا منذ قيام الجمهورية الثانية، حيث وصلت حدة المأزق بين رأسي السلطة التنفيذية تحت رقابة منحازة من رئاسة البرلمان لدرجة استحال فيها إنجاز كامل مراحل تحوير وزاري لا ينص الدستور أصلا على عرضه في الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب.
مخطئ من يعتقد أن هذا المأزق وليد الماضي القريب أو نتاج لمنظومة 2019 بل هو في الأصل تراكم لأزمات خير المتنافسون فيها المرور “للتوافق” الكاذب. لعل الأزمات انطلقت من إقرار التوجه نحو مجلس وطني تأسيسي أعيد فيه طرح الأسئلة الوجودية من قبيل من نحن؟ وماذا نريد؟ وهل للدولة وجوبا دين؟… لتنتهي سريعا كل هذه الأسئلة لإجابات فضفاضة وجد الجميع نفسه فيها ولو لبرهة… حيث استنبط المشرع حينها نظاما سياسيا محصنا لا يمكن من خلاله ممارسة الحكم إلا بشروط انتخابية لا يضمنها أصلا القانون الانتخابي بل يعرقلها ويعمق جراح النظام السياسي الهجين الذي اصطلح على تسميته “بالنظام شبه البرلماني”.
لم تعمر تجربة النظام الرئاسي المعدل سوى سنة وبعض الأشهر
كانت انتخابات 2014 فرصة حقيقة لمحاولة تطبيق النظام السياسي الجديد خاصة وأن العملية الانتخابية سمحت بأن يستعيد “النظام شبه البرلماني” حقيقته كنظام رئاسي معدل يستوجب أن يكون حزب الرئيس هو الحزب الأكثري بما يمكن أن يحقق التعاون المطلوب بين رأسي السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة من نفس الحزب)، غير أن حزب نداء تونس الفائز حينها بالانتخابات لم يقوى على التعايش البيني فتعززت شقوقه وانقسم إلى حزيبات صغيرة وبذلك لم تعمر تجربة النظام الرئاسي المعدل سوى سنة وبعض الأشهر القليلة ووجدنا أنفسنا إزاء نظام برلماني صرف يستفيد من خلاله رئيس الحكومة بالتوازنات البرلمانية ويصبح فيه رئيس الجمهورية أقليا.
ولم يكن هذا الخرق الجسيم الوحيد للتجربة التونسية حيث توافق الجميع على إهمال النصف الثاني من النقطة الخامسة في باب الأحكام الانتقالية وهي التالية : “يتم في أجل أقصاه سته أشهر من تاريخ الانتخابات التشريعية إرساء المجلس الأعلى للقضاء، وفي أجل أقصاه سنة من هذه الانتخابات إرساء المحكمة الدستورية” و ذلك خوفا وريبة من بعضهم البعض فخيروا “التعايش” على استكمال المؤسسات اللازمة لترسيخ الديمقراطية وكانت “الخطيئة” الكبرى.
تتالى الخروقات الجسام لروح النظام السياسي
أفرزت انتخابات 2019 نتائج غريبة لا يمكن من خلالها للنظام السياسي أن يشتغل أصلا حيث أنها تمخضت رئيسا للجمهورية باكتساح انتخابي دون أن يكون له حزب أصلا وبالتالي دون سند برلماني…
للوهلة الأولى خيل للجميع بأن لا يكون لرئيس الجمهورية أي دور في تحديد الرأس الثاني للسلطة التنفيذية والذي يتمتع بصلوحيات ترتيبة عامة واسعة جدا إن لم نقل أنه المختص الرئيسي بالسلطة الترتيبية العامة، غير أن مسار الأحداث وفشل رئيس الحكومة المكلف حبيب الجملي في نيل الثقة من البرلمان أرجع لرئيس الجمهورية المبادرة بل وأعطت فرصة جديدة لإنقاذ جوهر النظام السياسي التونسي عبر تكوين أغلبية رئاسية تمكن من تفعيل فلسفة النظام الرئاسي المعدل لكن اختياراته كانت ضده وضد النظام السياسي حيث عمد في المرة الأولى إلى اختيار سياسي لم يحصنه من الجانب القانوني ثم عمد ثانية لاختيار خيل إليه انه طيع فانقلب عليه من داخل أطر النظام السياسي…
لم يبقى من حل سياسي أمام رئاسة الجمهورية إلا استغلال “الخطيئة” الكبرى وفوض نفسه في غياب المحكمة الدستورية كمسفر أوحد لروح الدستور ورفض بالتالي قبول أداء اليمين أمامه من قبل الوزراء الجدد ليكون المأزق.
سيصفع قيس سعيد هشام مشيشي بيد حركة النهضة
إن تتالى الخروقات الجسام لروح النظام السياسي لا تؤدي إلا لخروقات جسام في تطبيق الدستور خاصة وأن المحكمة الدستورية لم ترى النور بعد… الحل لن يكون إلا حلا سياسيا صرفا بعد أن انعدمت الحلول الدستورية… وستجد حركة النهضة نفسها مضطرة أن تضحي برئيس الحكومة الذي لم تختره أصلا بل تبنته بعد خطيئة اختياره من رئيس الجمهورية نفسه…
سيصفع قيس سعيد هشام مشيشي بيد حركة النهضة وستكون مخرجات الحوار الوطني المنتظر التوجه لتشكيل حكومة وطنية وسيطالب المتحاورون من السيد رئيس الحكومة أن يستقيل قبل المرور للائحة لوم تعفيه وتكلف رئيس الحكومة الجديد بتشكيل حكومته وهو الذي عايش مثل جميع التونسيين مصير سلفه…
انتهى الزمن السياسي لحكومة المشيشي ولن يقف المأزق عند هذا …
* ناشط سياسي مستقل.
شارك رأيك