المغزى من الخلاف القائم حاليا حول استحالة مرور التحوير الوزاري الأخير هو أن النهضاويين الذين عملوا على صياغة دستور على المقاس، ثم و منذ 2014 و هم يعطلون قيام محكمة دستورية، في خرق جسيم و صارخ للدستور، لأنهم يريدون شيوخ شريعة إخوانيين كقضاة في المحكمة الدستورية و ليس رجالَ أو نساء قانون دستوري مشهود لهن و لهم بالكفاءة و الحياد، فوقعوا في مقولة: “من حفر جبا لأخيه وقع فيه” و مقولة: “انقلب السحر على الساحر”.
بقلم محمد صالح حمايدي *
استمعت يوم الجمعة 12 فيفري 2021 إلى عبد الفتاح مورو النهضاوي الذي يتخفى تحت جبة الحداثة (لأن الإخواني أو الدستوري أو الشيوعي… لا يتغير في سن الـ 75 سنة و بعد خسارته في الانتخابات تحت راية ذلك الحزب بعد سنة ونيِّف)، استمعت إليه و هو يقول أن الخلاف بين رئيس الجمهورية قيس سعيد و رئيس الحكومة هشام مشيشي دستوري و يمكن حله من طرف الهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية القوانين في غياب المحكمة الدستورية التي يوكل لها الدستور في الفصل 101 صلاحية النظر في تنازع الصلاحية بين رأسي السلطة التنفيذية.
و يستند الرئيس السابق لمجلس نواب الشعب في موقفه هذا إلى تصريح هذه الهيئة المؤقتة بالشغور الدائم لمنصب رئيس الجمهورية بسبب الوفاة، بناء على تقرير طبي، و الذي اعتمده محمد الناصر رئيس مجلس نواب الشعب في تلك الفترة بتوليه مؤقتا رئاسة الجمهورية إلى أن يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بناء على منطوق الدستور.
سكوت التونسيين على خرق دستوري
بالفلاقي، و إذا ما أردنا مناقشة ارتقاء محمد الناصر إلى منصب رئاسة الجمهورية بالنيابة، بالاستناد إلى القانون الدستوري، فإنه غير دستوري لأنه استند إلى قرار غير قانوني من هيئة لا صلاحية لها في اتخاذ ذلك القرار. غير ان كل التونسيين، شارعا و مؤسسات، سكتوا على هذا الخرق الدستوري براڨماتيا و تأثرا لوفاة المرحوم الباجي قايد السبسي الذي كان يحظى بقدر كبير من تعاطف التونسيين، و الدليل على ذلك الجنازة المهيبة التي نظمت له (و نحن شعب عاطفي و غير عقلاني).
و للتذكير فإن دستور 2014 ينص على قيام محكمة دستورية في ظرف سنة من تاريخ صدوره، أي 27 جانفي 2014. و في انتظار قيام المحكمة الدستورية في تلك الفترة، و حتى لا يتم إصدار قوانين مخالفة للدستور، أقر هذا الأخير في أحكامه الانتقالية بعث هيئة مؤقتة لمراقبة دستورية مشاريع القوانين تتركب من الرئيس الأول لمحكمة التعقيب و الرئيس الأول لمحكمة المحاسبات و الرئيس الأول للمحكمة الإدارية، و من ثلاثة أعضاء آخرين كل واحد منهم يعينه و احد من الرئاسات الثلاث، و تنحصر مهمتها في النظر في القوانين التي يصادق عليها البرلمان التي يطعن فيها أمامها 73 نائبا فأكثر قبل ختمها من طرف رئيس الجمهورية.
و رغم أن عددا من أعضاء المجلس التأسيسي كانوا قد طالبوا منح هذه الهيئة المؤقتة كل صلاحيات المحكمة الدستورية على غرار الهيئة الدستورية التي أحدثت بالدستور الصغير الذي حُكِمت به البلاد طيلة فترة صياغة الدستور، إلا أن ذلك المقترح لم يحظ بالقبول.
الخلفية الحقيقية للخلاف بين رئيس الدولة و رئيس الحكومة
و بالتالي فإن وضعية المأزق الدستوري الذي نحن فيه يعود:
– أولا، إلى المجلس التأسيسي الذي لم يمنح الهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية مشاريع القوانين الصلاحيات التي منحها لمثيلتها، طيلة سنوات صياغة الدستور، حتى لا يحصل فراغ في فترة السنة الفاصلة بين تاريخ إصدار الدستور و التاريخ الأقصى لقيام المحكمة الدستورية.
و قد تعرضت تونس إلى ذلك، مثلما أسلفت، عند الشغور الدائم لمنصب رئيس الجمهورية في 25 جويلية 2019، و ما زلنا معرضين إلى نفس المشكل يوميا، طالما لم تقم المحكمة الدستورية التي تتطلب انتخاب بقية الأعضاء الراجعين إلى مجلس نواب الشعب، ثم انتخاب الأربعة أعضاء الراجعين إلى المجلس الأعلى للقضاء، و أخيرا تعيين رئيس الجمهورية الأعضاء الأربعة الذين هم من نصيبه.
– ثانيا، مجلس نواب الشعب الذي تسيطر عليه حركة النهضة التي لم تسمح بحصول أي مترشح على الأغلبية المعززة للوصول إلى المحكمة الدستورية، و هي أغلبية لا مبرر لها لأن المحكمة الدستورية ليست مؤسسة دستورية و إنما هي هيئة قضائية و الدليل على ذلك انها جاءت في الدستور تحت باب السلطة القضائية و ليس في باب الهيئات الدستورية. و تبعا لذلك فإن القانون المنظم لها، حسب الدستور، هو من صنف القوانين الأساسية التي تتطلب أغلبية مطلقة بـ 109 صوتا و ليس بأغلبية معززة بـ 145 صوتا.
و بعد هذا و كله، و بالرجوع إلى الخلاف الذي حصل بين رئيس الجمهورية و رئيس الحكومة فإنه لم ينطلق ابتداء من تاريخ إعلان المشيشي عن أسماء الوزراء الجدد في التحوير الذي أجراه، و إنما انطلاق منذ سفره المفاجئ إلى باريس في نهاية سنة 2020 و الذي ساده الغموض التام و إقدامه بعد عودته إلى أرض الوطن على عزل وزير الداخلية توفيق شرف الدين أخلص الخلاص المحسوبين على قيس سعيد. و بذلك لم يعد رئيس الحكومة، كشخص، يحظي بثقة رئيس الجمهورية الذي يعتبره قد خان الأمانة و ارتمى في أحضان خصميْه الشخصييْن (و ليس فكريا لأن قيس سعيد لا يرفض الإسلام السياسي بقدر ما يرفض منافسة راشد الغنوشي له في السيادة على رأس الدولة).
هشام المشيشي لا يرفض أي طلب لوسادته السياسية
أما هشام المشيشي فكل ما يعنيه هو وسادته التي تضمن له البقاء في موقع رئيس الحكومة، و لذلك فهو لا يرفض لها أي طلب حتى و لو كان على حساب ما صرح به عند تكوين حكومته بأنها ستكون حكومة كفاءات مستقلة عن الأحزاب. و إذا كانت حكومته الأولى المستقلة عن الأحزاب قد نالت ثقة برلمان الأحزاب، فإن ذلك كان من باب الضرورة حتى لا يجد النواب المحتمون بالحصانة البرلمانية أنفسهم خارج قصر باردو، لأن رئيس الجمهورية قد يقدم على حل البرلمان في حال لم تنل الحكومة التي عين رئيسها ثقة البرلمان.
و للتغطية على هذا الخلاف الحقيقي يتخفى كل من قيس سعيد و هشام المشيشي وراء نصوص دستورية لتبرير مواقفهما غير المعلنة. أما الرئيس قيس سعيد فهو يعلم أنه، في غياب المحكمة الدستورية، لا يمكن لأي كان أن يقاضيه بتهمة الخرق الجسيم للدستور. و أم رئيس الحكومة هشام المشيشي فهو يتخبط و يبحث عن فتوى قانونية تخرجه من أزمته لكنه لن يجدها، في غياب المحكمة الدستورية و لأن الصراع سياسي حتى لا نقول شخصي.
هل عرفتم يا نهضاويين يا من عملتم على صياغة دستور على المقاس، ثم و منذ 2014 و أنتم تعطلون قيام محكمة دستورية، في خرق جسيم و صارخ للدستور، لأنكم تريدون شيوخ شريعة إخوانيين كقضاة في المحكمة الدستورية و ليس رجالَ أو نساء قانون دستوري مشهود لهن و لهم بالكفاءة و الحياد، أنكم وقعتم في مقولة: “من حفر جبا لأخيه وقع فيه” و مقولة: “انقلب السحر على الساحر”.
* رئيس مدير عام سابق لعدد من المؤسسات العمومية و خبير دولي في قانون تعديل هيئات الأسواق المالية.
شارك رأيك