تثير الفوضى السياسية والأخلاقية التي تعيشها البلاد الدهشة والاستياء وخيبة الأمل وأحيانا الغضب والغيظ. فالكل يتصارع مع الكل وينصب الفخاخ السياسية والاقتصادية ويحاول الاستئثار بكل شيء ومصادرة القرار على حساب الآخر. و في المقابل الكل يتحدّث عن دستورية الدولة والحكم في ظلّ عجز كلي أو جزئي في الوفاء بمتطلبات العيش الكريم في الداخل وتعزيز مكانة الدولة في الخارج.
بقلم العقيد محسن بن عيسى *
الدولة بعيدة عن “نبض الشعب”
تشير الانفعالات المتقلبة والخلافات البينية الشخصية التي تعصف بالبلاد منذ 2011 دون رادع أخلاقي إلى الحالة الميؤوسة التي وصلنا إليها والتي تذكرنا بمسار انهيار عدة دول عربية وتخبّطها إلى اليوم في الفشل والضعف وسوء الأداء على كل المستويات.
لقد أصبح واضحا أنّ التطورات السياسية لدينا منذ عقد تقريبا ورغم استعارتها لاسم “الثورة” لم تكن ثمرة طبيعية لتطور اجتماعي وسياسي تدريجي ومُتتابع بل كانت ردّ فعل لصدمة اجتماعية، لذلك لم يستوعب التيار الثوري لدينا معنى الإصلاح الذي صنع القوة لدى عدة دول عرفت تغيير أنظمة قبلنا.
وبعيدا عن الجدل والتأويل، فالقيادات السياسية التي من المفروض أن تصنع الفارق الإيجابي بالنظر لخبرتها وكفاءتها السياسية وانتمائها الوطني وإيثارها وإدارتها المستنيرة أصبحت عُملة نادرة. هناك حاجة ماسة إلى قيادات تُحيي فكرة الدولة وتشكّل البوصلة الإجرائية للمرحلة القادمة. قد أميل إلى فكرة الهوية الدستورية المتحرّرة من أي دلالات أو إيحاءات دينية ولكن دوما في اتجاه حماية خصوصيتنا وثقافتنا ومصالحنا وتطلعاتنا.
إنّ الخطورة البالغة فيما يجري هو تجذّر الخوف من المستقبل وتوسّع دائرة الفوضى لتصل إلى الجماهير وتدفع بها للخروج على القانون وفي هذا تهديد للمصالح الحيوية ولسيادة الدولة. أعتقد أنّ مساحة الحرية يجب أن تقابلها ضوابط محّددة لحمايتها من الانزلاق والخروج عن الحدود المعقولة وفقا لما تقتضيه المصلحة العامة. هناك تفاعل فوضوي وهمجي في فهم واستغلال الحق في التفكير والكلام والرأي والاختيار والتصرّف لدى جانب لا يستهان به من المجتمع وفي كل المستويات.
كيف يمكن دعوة المواطن لاحترام القانون؟ والمشهد السياسي والاجتماعي تغلب عليه “النقاشات البيزنطية” والجرأة على “المس من الهياكل والمؤسسات الرسمية”. إنّ سلوك المواطن هو ظاهرة سلوكية مُقرّرة سلبا أو إيجابا لمصير الدولة.
الحل في “سوسيولوجيا الأمل”
لا أرتاح كثيرا لضعف الدولة إذا طال فهو مؤشّر على قرب دخولها “مرحلة الفشل” التي تليها حتما “مرحلة الانهيار” لا قدّر الله. وأنزعج من ربط وضعنا بـ”فكرة استعمارية” قديمة تؤكد على أنّ الشعوب المنهارة لا تقوى بنفسها على مواجهة أوضاعها إلا بتدخّل وإدارة دول غنية و متقدمة. لقد أخضع الاستعمار القديم البلاد والعباد بالحديد والنار وربما تجري محاولات لإخضاعنا لاستعمار جديد ولكن بالقوة الناعمة والبترودولار.
ما المانع في تجديد الخطاب السياسي وتخليصه من البداوة السياسية والفكرية؟ فالمدنية ليست أن ننتمي إلى المدينة والحداثة ليست أن نعيش في عصر الحداثة بل هي نهضة وانتقال من حال إلى حال. فلا وجود لدولة حقيقية بدون مجتمع مدني وليس من الممكن قيام مجتمع مدني في ظل ثقافة التخلف.
أشاطر الرأي القائل أنّ المجتمع يتطلب إيجاد أحزاب تقوم على الفكر لا على الأيديولوجيا، وجمعيات تقوم على العمل التطوعي لا على الربح، ومدارس فكرية تقوم على البحث لا على الاستعراض، وعقيدة سياسية تقوم على “التعايش المشترك” لا على “التفرقة والاقصاء”.
يبدو أنّ مشكلتنا في تونس هي استمرار عللنا وأعراضها وكأننا نجتر أخطاءنا وعيوبنا ونواقصنا ونرحّلها من زمن لزمن وبشكل مثير للشفقة. هناك حاجة للاستئناس بـ “سوسيولوجيا الأمل” للمفكر الكبير محمد أركون والتي يراها الراحل “البديل الاستراتيجي” الوحيد لضرب الجذور الفكرية المنتجة للتخلّف، وهي المشروع المستقبلي لمحو الأمّية بكل أنواعها بما في ذلك الأمية المعرفية والجمالية والثقافية.
هناك ضرورة ملحة لتكريس الفهم المتبادل على كل المستويات وقطع طريق الكراهية وصناعة اليأس.
* ضابط متقاعد من الحرس الوطني.
شارك رأيك