الأزمة السياسية في تونس اليوم تعود إلى دستور 2014، وهي أنه ما أعجز أهل الحكم على تلبية حاجات محكوميهم إذا قسَروهم على إساغة حُكم لهم لا رأس له ولا أساس إلا دستور كالصنم، إذا لم نرجع به إلى قوانين موحدة واضحة أو تغييره كرمز حقيقي ممثل لإرادة أمة عظيمة موحدة لا مشتتة بعدد أحزابها.
بقلم الدكتور المنجي الكعبي *
روي أن ملكاً من ملوك الحيرة كان له صنمٌ، يسجد له ويعظِّمه، فسنّ أنّه من لم يسجد له قُتل، فأقام بذلك بُرهة من الزمان لا يمرّ به أحدٌ صغير ولا كبير إلّا سجد له، فصار ذلك سنة لازمة وأمراً كالشريعة أو الفريضة. فإذا قُدّم من لم يسجد للقتل حُكِّم في خصلتين كائناً ما كان فيُجاب إليهما.
فمرّ يوماً قصّارٌ ومعه كارةُ ثيابه وفيها مِدَقّتُه، فقال الموكّلون بالصنم للقصّار: اُسجدْ! فأبی أن يفعل، فرُفع إلى الملك وأُخبر بقصّته، فقال: ما منعك أن تسجد؟ قال: قد سجدتُ لكنهم كذبوا عليّ. قال: الباطل قلتَ، فاحتكمْ في خصلتين فتُجاب إليهما وإنّي قاتلك! قال: لا بدّ من قتلي بقول هؤلاء؟! قال: نعم، فقال: إنّي أحتكم أن أضرب رقبةَ الملك بمدقّتي هذه، قال له: يا جاهل لو حكمتَ بما ينفع مَن تُخلِّفه كان أصلحَ لهم، قال: ما أحكم إلا بضربة في رقبة الملك، قال: فقال لوزرائه: ما ترون فيما حكَم به هذا الجاهل؟ قالوا: هذه سُنّةٌ أنت سننتها وقد تعلَم ما في نَقْض السُّنن من العار والبوار وعظيم الإثم، ثم يجِدُّ بعدك ممن يكون سبيلاً إلى تعطيل السُّنن، قال: فاطلبوا إلى القصّار أن يحكم بما شاء ولو بلَغَ شطرَ مملكتي، فطلبوه إليه فقال: ما أحكم إلّا بضربة في رقبته، فلمّا رأى الملك ما عزم عليه القصّار، قعدَ له مجلساً عاماً وأحضر القصّار فأخرج مِدقّته فضرب بها عُنق الملك ضربة أزاله وخرّ الملك مَغشياً عليه، فأقام وقيذاً أي بين حياة وموت ستة أشهر، وبلغت به العلة حداً كان يُجرّع الماء فيه بالقطن، فلما أفاق وتكلّم وأكل وشرب قال: ما فعل القصّار؟ فقيل له: محبوسٌ فأمر بإحضاره وقال: قد بقيَتْ لك خصلةٌ فاحتكم فيها، فإنّي قاتلك لا محالة، فقال القصّار: فإذا كان لا بدّ من قتلي فإنّي أحتكم أن أضرب الجانب الآخر ضربة أُخرى، فلمّا سمع الملك ذلك خَرّ على وجهه من الجزع وقال: ويلك دع عنك ما لا ينفعك واحتكم بغيره وأُنفّذُه لك، قال: ما راحتي إلا في ضربة أخرى، فقال لوزرائه: ما ترون؟ قالوا: نرى لك أن تموتَ على السُنّة، قال: ويحكم والله إن ضرَب الجانب الآخر إنْ شربتُ البارد أبداً، قالوا: فما عندنا حيلة! فلمّا رأى ما قد أشرف عليه القصّار قال للقصّار: أخبرني ألم أكن سمعتك يوم جاؤوا بك الشُّرَط تقول إنّك قد سجدتَ وإنّهم كذبوا عليك؟ قال: قد كنت سجدتُ وقلت ذاك فلم تصدّقني، قال: فكنتَ قد سجدتَ؟ قال: نعم! فوثب الملك فقبّل رأسه وقال: أشهد أنك صادقٌ أصدق من أولئك وأنّهم كذبوا عليك، انصرفْ راشداً فحمل كارَتهُ ومضى.
ولا عبرة لنا من سرد هذه القصة التي رواها أكثر من كاتب في أدبنا القديم إلا التعبير عن فكرة تخامرنا بمناسبتنا مع هذه الأزمة بدستور 2014، وهي أنه ما أعجز أهل الحكم على تلبية حاجات محكوميهم إذا قسَروهم على إساغة حُكم لهم لا رأس له ولا أساس إلا دستور كالصنم، إذا لم نرجع به إلى قوانين موحدة واضحة أو تغييره كرمز حقيقي ممثل لإرادة أمة عظيمة موحدة لا مشتتة بعدد أحزابها.
* باحث جامعي و نائب سابق.
شارك رأيك