تونس تغرق، فعليا، تماما مثلما تغرق المراكب، يتسلل الماء إلي داخل السفينة و تستفحل الأزمة : المديونية، خدمات الادارة و التعليم و الصحة و النقل العام و شركات القطاع العمومي، تبغ ووقيد، سكك حديدية، كهرباء و غاز، توزيع المياه، الصرف الصحي، البنوك … تردي تنافسية المنتجات التونسية و حصتها في الأسواق العالمية، زيت زيتون، تمر، فسفاط، نسيج، جلود و أحذية، آلات كهربائية و ميكانيكية… و الوضع الإقليمي و الدولي، الاقتصادي و السياسي، كل ذلك يفاقم من شدة الأزمة و لا رجاء في نهاية النفق المظلم.
بقلم محمد بوزيد *
يوميا تطالعني تعليقات و ردود أفعال من قبيل شعب كذا، شعب بهيم، شعب حقير، خواف، منافق، سخيف و غير مؤهل لتسيير ذاته، لا يستحق الديمقراطية و لا الثورة… وغيرها من التعابير التي تنسب كل حالات الفشل و سلبيات الواقع الذي نعيشه إلى الشعب، مما يزيد في احتقان النفوس و يجعل من الرؤية ضبابية تنحو نحو التسليم و القبول بالمصير المشووم.
ماذا يمكن أن تطلب من سباك أو ميكانيكي أو كهربائي بحار أو حتى معلم و أستاذ، موظف، طبيب، مهندس أو غيرهم من أبناء الشعب البسيط، أكثر من أن يقوم بعمله كما يجب و أن يكون مسؤولا في عائلته و يدفع الضرائب و يشارك في الحياة العامة من خلال النقاش أو التصويت أو متابعة الأخبار في وسائل الإعلام في نظام حكم يقوم على التفويض، اي تفويض صلاحيات التمثيل.
ليس أسهل من سب الشعب و تحميله مسؤولية الفشل
ماذا يمكن أن تطلب أكثر من مواطن يحترم القانون و يتمسك بسلطة الدولة و بالتفاعل الايجابي ؟
ليس أسهل من سب الشعب، مجموعة هلامية لا تقدر على الرد أو عن التعبير عن نفسها.
وهذا السب فيه احتقار و جلد للذات و استبطان أيضا لكل النعوت الاستعمارية التي قيلت بحقنا و بحق كل الشعوب التي تم استعمارها، وهي بذلك تكرسها و تضمن لها حياة أطول بما من شأنه ان يعيق التحرر منها في العقول و الانطلاق لتحرير الواقع المادي بعد ذلك.
هذا الجلد للذات فيه تحويل مسؤولية الحكومة و الأغلبية الحزبية التي تساندها، وهي التي تقرر و تتقاسم المصالح والتعيينات والامتيازات، إلي مسؤولية جماعية تذوب فيها أي إمكانية للمحاسبة و التجاوز لنغرق كلنا في حالة انهيار جماعي: Une dépression collective et un dénigrement général.
وهو بالضبط ما يريدونه لنا، أن نشاهد انحدارنا المتواصل بدون تصويب سهام نقدنا للمسؤولين عن وضعنا بل أن نعتقد اننا نستحق ما يقع لنا، و كأنه قدر.
هذه الحكومة ليست حكومتنا والدولة كذلك ليست دولتنا
باختصار شديد، و ببساطة أيضا، هذه الحكومة ليست حكومتنا، و الدولة كذلك ليست دولتنا. فعوض تغيير سياساتها و نمط الإنتاج الذي لا يخلق الثروة و لا يراكمها، فضلا عن الحفاظ عليها داخل البلاد، عوض التصدي للنفاوت الجهوي و التهريب و التهرب الضريبي، فها نحن في طريق مفاقمة الأزمة، و بكل بلاهة، و كل حديث عن إنقاذ ما يمكن إنقاذه هو تبرير لتنازلات سياسية جديدة تطيل في عذاب الناس و في تواصل الفشل.
التوانسة ليسوا شعبا واحدا، بل شعوبا، فلا شيء يجمع بين الأغلبية المستلبة المقهورة و الجائعة و التي تجري ما تلحق و ما بين كبار الأغنياء اللذين يتهربون من دفع الضرائب للدولة و ديونهم لدي البنوك، أو كبار الموظفين في الوزارات الذين يرسمون سياسات الدولة و يواصلون دعم السماسرة على حساب احتياجات الأغلبية.
يجب تحديد من نحن ومن هم و باسم أي شريحة و أي طبقة من الشعب نحن نتكلم باسمها أو ننتمي إليها. الوعي باختلاف المصالح الطبقية و اختلاف الأولويات و موقع التخندق هو الخطوة الأولى.
ثانيا، الدعوات الي تغيير النظام السياسي من برلماني إلي رئاسي لا معنى لها و لن تأتي بالنجاعة المرجوة و بالاستقرار الحكومي، و الأقرب إلي الواقع أنه ستكون نتيجتها العودة إلي الديكتاتورية و الاستبداد بالسماح لطرف واحد السيطرة على كل السلطات و من ثم على كل دواليب الدولة و الإدارة خاصة في ظل الرداءة و الركاكة المنتشرة و تغلغل المال السياسي و الإعلام الموجّه و التدخل الأجنبي في حياتنا السياسية.
ثالثا، قيس سعيد، رئيس الجمهورية، لن يفيدنا كثيرا، إذ رغم أن له شرعية الانتخاب المباشر فلا صلاحيات كبيرة له و يكفي أنه ليس تحت سيطرة حركة النهضة و لا يسمح لها ب”ضمان” مؤسسة رئاسة الجمهورية و مجلس الأمن القومي، إذ انه لو حصل ذلك لانتفي أي سبب في تغيير النظام السياسي من برلماني الي رئاسي.
إن وضعيتنا السياسية الحالية مردها الي رغبة حركة النهضة في الحكم من وراء ستار، وهي التي تدافع عن الحجاب، بهدف عدم تحمل المسؤولية السياسية عن فشلها المتعاقب و المتكرر، و لا دخل لطبيعة النظام السياسي في ذلك.
ضرورة التجذر في أفق ثورة وطنية ديمقراطية
رابعا، إن أي حل غير مواصلة المسار الثوري هو حل لا شرعية له و الحزب الدستوري الحر هو الوجه الاخر للأزمة. على البرجوازية الصغرى و المتوسطة و شرائح المنتجين و رجال الأعمال المرتبطين بالسوق الداخلية أن يتخلوا عن ترددهم و خوفهم من التموقع يسارا و أن يفهموا أنه بدون تجذرهم في أفق ثورة وطنية ديمقراطية تقطع مع الإمبريالية و مع نمط الإنتاج الحالي، أي التخصص و الإنتاج للسوق العالمية و حماية الرأسمال الأجنبي و اتفاق الشراكة مع أوروبا، فلن نتحرر و لن نخرج من الأزمة.
إن سبب أزمتنا هو انبطاح الحكومة و الأغلبية البرلمانية لديكتاتورية الاتحاد الأوروبي و صندوق النقد الدولي وأمريكا و لن نتحرر من دون الوعي بأنهم أعداء الخارج و أصحاب القرار الفعلي، إضافة لأعداء الداخل، و أنه علينا مواجهتهم و الاستعداد لذلك، و لدفع الثمن أيضا إن لزم الأمر، إن أردنا العيش بكرامة و بحرية.
أخيرا، يجب إعادة تأسيس لليسار على أسس راديكالية مختلفة عن يسار البيانات والنضال حسب التوقيت الإداري والبرجوازية الصغرى اليسارية المتذيلة دوما للديمقرطيين الليبراليين و للبيروقراطية، بيروقراطية الدولة و بيروقراطية اتحاد الشغل، يجب أن يرتكز هذا اليسار الجديد على: 1- راديكالية الممارسة و الانخراط الفعلي- 2- تنظيم المهمشين، البروليتاريا الرثة و الفلاحين الفقراء.
سيتواصل وضع البلاد على ما هو عليه ما لم نقم، نحن أو غيرنا، بذلك.
* ناشط سياسي مقيم بجينيف.
شارك رأيك