لقد صارت تونس ومنذ أن سقط النظام و قامت الفوضى الإعلامية في البلاد، بلد المليون سياسي و أكثر: الكلّ يُنظّر و الكلّ يُفتي و الكلّ يشاكس و الكلّ يراوغ… و التونسي الغافل يُعطي كلّ هؤلاء انتباهه ليُنغّصوا عليه أحلى أوقات يومه و هو يحسب أنّه يُحسن صنعا و يزداد علما و ما يزداد حقا إلاّ همًّا و غمًّا…
بقلم كريمة مكّي *
أكثر من عشر سنوات و التونسي المسكين ينام على السياسة و يصحو عليها.
أكثر من عقد من الزّمن و التونسي يفطر سياسة و يتغدّى سياسة و يتعشّى سياسة.
في كلّ صباح جديد ينهض التونسي متثاقلا كئيب وعوض أن يلتفت لمشرق الشمس و يرفع يديه بالشكر لخالق الأكوان الذي وهبه يوما جديد ليسعى في الأرض فتعمر به و تزهى، تجده يبدأ يومه بفطور مغمّس بطين السّياسة وأوحالها فيفتح عينيه على الجوّال وأذنيه على الإذاعات ليُعيد متابعة ما تعشّاه البارحة من تصريحات وخصومات وعراك و سباب بين هذا و ذاك على حلبة البلاتوهات.
بعد ذلك يأخذ التونسي وقتا مستقطعا من السياسة ليذهب إلى عمله، فيعمل ما أمكنه أن يعمل دون أن ينسى معاودة الحديث في نفس تلك الأحاديث مع من يشاركه المكان أو حتى مع العابرين فيبدأ بالتأسّف على الوضع الذي آلت إليه البلاد ثم يُذكّر محاوره بما سمعه في الصباح متصوّرا أنّ محاوره ليس مطلعا مثله بما فيه الكفاية. و هكذا إلى أن يحين موعد الغداء و ما أدراك ما موعد الغداء. هذا الموعد المقدّس لدى كلّ الشعوب و لدينا طبعا ولكننا ويا للمأساة، لا نعرف كيف نلقاه و كيف نعطيه حقّه من الاحترام. فالطعام نعمة من أعظم نِعم الإله و مباشرته تستوجب أن نتطهّر له من كل المنجسات المادية والفكرية وأن نُخلي الرّأس ممّا سواه حتى يعود على الجسم بالصحّة وعلى العقل بالطاقة اللازمة لمجابهة أحمال الحياة.
و أنّى لنا أن نفهم حينئذ ماذا أكلنا و كيف أكلنا و هل أحببنا حقّا ما أكلنا و به أحسسنا و استمتعنا أم فقط أكلنا و فقط شبعنا!
أنّى لنا، فقط، أن نفهم؟! و كيف، إذن، لا تُهلكنا الأمراض!
لقد صارت تونس ومنذ أن سقط النظام و قامت الفوضى الإعلامية في البلاد، بلد المليون سياسي و أكثر: الكلّ يُنظّر و الكلّ يُفتي و الكلّ يشاكس و الكلّ يراوغ… و التونسي الغافل يُعطي كلّ هؤلاء انتباهه ليُنغّصوا عليه أحلى أوقات يومه و هو يحسب أنّه يُحسن صنعا و يزداد علما و ما يزداد حقا إلاّ همًّا و غمًّا…
إنّك لتجد منّا ساعة الغداء من يأكل اللقمة بِيَدٍ و بالأخرى الهاتف اللعين لكي لا يفوته شلاّل الأخبار الهادر على مدار اليوم ثم و في نفس الوقت يرسل بأذنيه بين الحصص التي تؤثثها الإذاعات التونسية الكبرى في ساعتي الغداء و كلّها تحكي في السياسة بلا أدنى سياسة و بعدد لا يحصى من المتحاورين الذين يتخاطفون الكلمة و يتصايحون على رؤوسنا و لا يتوقفون إلاّ إذا رحمتنا السّاعة و جاءنا موعد الأخبار!
أيّ معدة في العالم – يا الله – قادرة على هضم كل هذه السّموم؟؟؟ قولوا بالله عليكم: لماذا تفعلون بأنفسكم الأفاعيل؟؟؟ لماذا تجعلون أخبار السّياسة خبزكم اليومي؟؟؟
ستموتون – و الله – مللا و ثقلا و طنين!
دعوا السياسة لأهلها و عودوا لأنفسكم لتنقذوا نفوسكم من اليأس و الحزن و الحنين!
أعيدوا صياغة العالم من حولكم حسب ما تحبّون حقّا و ستُذهلون.
لا تستسلموا للمرتزقة من الخائضين في الشأن العام بغير علم و لا ضمير.
لا تصدقوهم إذ يشوّهون لكم وجه البلاد و وجه الحياة.
الحياة صعبة و معقّدة و قاسية نعم و لكن الدنيا ما تزال بخير لأنّ الأصل فينا هو الخير أمّا الشرّ فعابر بنا غير مقيم.
وتونس اليوم بخير و هذه الشمس أمامكم مازالت تشرق فيها كما كانت دوما، فممّ تخافون؟
أنتم لستم في حاجة للحديث الطويل في السياسة، فالسياسة الحق هي قَدَرُ أناس مُعيّنين تماما كما أنّ العلم أو الأدب قَدَرُ أناس آخرين.
فابحثوا بداخلكم عمّا تعشقون و ستعرفوا أيّ درب تسلكون و فيه تتألّقون…
اقرؤوا كتب الكبار: ستجدون أرواحا تُشبه أرواحكم تنشد المحبّة و السّلام و ستهدؤون كثيرا و تطمئنّون.
لا تضيّعوا وقتكم الثمين في متابعة الغوغاء، فالعلم لن يأتيك – أيها المستمع الحزين- من أفواه السياسيين الكاذبين بل من داخلك أنت فأغلق عنهم أذنك و حوّل سمعك إلى الدّاخل.
في هذه الأيام العصيبة نحن لا نحتاج لهذا الكم من السياسة، نحن نحتاج أكثر إلى الأدب… و لو قليلا…قليلا فقط من الأدب!
كتب الأديب طه حسين: ʺأحسن المعرفة معرفة نفسك و أحسن الأدب وقوفك عند حدّكʺ.
وكتب الصوفي الكبير جلال الدين الرومي: ʺبالأمس كنتُ ذكيا فأردت أن أغيّر العالم… و اليوم أنا حكيم و لذلك سأغيّر نفسيʺ.
أما رائد الرواية المصرية نجيب محفوظ فكتب لكم: ʺكيف نضجر و للسّماء هذه الزُّرقة و للأرض هذه الخضرة و للورد هذا الشذى و للقلب هذه القدرة العجيبة على الحبّ و للرّوح هذه الطاقة اللاّنهائية على الإيمان”.
* كاتبة و مدونة.
شارك رأيك