ليس بوسع أحد اليوم تجاهل مسألة الدولة والسلطة في تونس فالواقع السياسي في بلادنا أصبح يحتاج إلى ضبط حقيقي لضمان الحد الأدنى مما هو متعارف عليه ضمن أعراف وتقاليد الرصانة السياسية. لا أكاد أصدّق ما يجري فالمشهد السياسي يعيش حالة “إرباك”لا تمّت بصلة لإرث الدولة والفكر السياسي.
بقلم العقيد محسن بن عيسى *
مسرح السياسة والحكم
ينتابني شعور بالاستياء من الممارسات الجارية، وكأنّ نظام الحكم الذي ارتبط لعقود طويلة بتحرير الوطن وبناء الدولة أصبح عنوانا للسخرية. لقد غابت الأسس الموضوعية لسياسة الاعتدال والقدرة على معالجة الواقع وفق منظور مبني على العقل والمنطق بشكل يكاد أن يكون كلّيا.
لا يمكن أن نفهم الحماس الهستيري أو التأييد الحزبي المنافق المصحوب بالتزلف والرياء، بعيدا عن السياق السياسي الحالي. هناك حالة خداع وإيهام تستغل أزمة الوعي لدينا، هذه الأزمة التي تجذّرت في الجهل والجبن والكذب، وتحاصر اليوم النخب الشريفة، وتخون الأمانة وتعبث بمقدّرات الدولة ومصيرها.
إن الأمانة التي يتعاقب الأجيال على استلامها من بعضها ليست الأيديولوجيا بتبعياتها المختلفة بل الدولة التي تكمن فيها أمنها وسلامتها وكرامتها وحقوقها وحرياتها ونظام حياتها الشاملة. وأعتقد أنّ أولى الضمانات الدستورية الواجب الحديث عليها في هذا الظرف هي الوحدة الوطنية، وأولى الخطوات في هذا الإطار هي تعزيز الشعور الوطني لدى المواطنين بانتماءاتهم سياسيا واجتماعيا واقتصاديا الى الدولة القائمة.
هناك حاجة لإعادة بناء القيم المشتركة لعموم المجتمع وضم الانتماءات والولاءات كافة في ظلّ ولاء وطني كبير. لقد تعب الشعب من الكوميديا السياسية الجارية ومن المعارك المجانية دون معالجة القضايا المصيرية.
الإنقاذ : من الثورة الى الدولة
يبدو أنّ الأمر أصبح أكثر وضوحا على الأقل، فالوقائع فعلت فعلها ومسيرة الدولة منذ 2011 لم تتم على منوال النماذج المُبشّر بها، فلم تنبثق دولة التعددية والديمقراطية والوحدة الوطنية ولم تتطوّر مؤشرات المنافسة السياسية، ولم تتقارب التصورات بشأن الشكل الذي ينبغي أن تتخذه الدولة.
لقد عادت شخصية بورقيبة و”الكاريزما” التي يتمتّع بها لتلقي بظلالها على الواقع السياسي بعد تدهوره على كل المستويات. لا يمكن أن أنسى حديث آمر مدرسة ضباط الجندرمة بفرنسا في السبعينات “العقيد بايول”، على هامش احتفالات التخرّج وتصريحه بـكل إكبار: “شرفٌ لكَ أن تعمل تحت قيادة بورقيبة الذي هو أكبر من حجم تونس مثل ديغول بالنسبة لفرنسا”.
لقد واجه بورقيبة فرنسا ولكنه فرض على قادتها الاحترام لنضاله أثناء الحركة الوطنية والثورة التحريرية ومسيرة بناء الدولة. إنّ ثقافة القوة لدى بورقيبة ليست حكرا عليه بل كانت موجودة بوضوح داخل جيل الزعماء الذين برزوا في الحركة الوطنية والثورة المسلحة وتقاسموا مسؤولية الدولة.
أعلم أنّ هناك مآخذ لدى البعض على حكم بورقيبة خاصة بعد السبعينات وأسفث لدى البعض الآخر على خروجه من السلطة بشكل لا يليق بتضحياته وثقافته وعبقريته السياسية.
ولكن علينا ان نذكّر أنّ الزعيم لم يكن سياسيا من الدرجة الأولى فقط بل مُصلحا تقوم رؤيته على البراغماتية والعقلانية وتبتعد عن العواطف والديماغوجية لأنها في نظره لا تبني دولة منيعة. بورقيبة هو رجل سياسة المراحل وباني الدولة الحديثة.
أعتقد جازما أنّ إهمالنا لأنفسنا وتراثنا وتاريخنا كان ولا يزال السبب الأول للأوضاع البائسة التي نعيشها.
* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك