تحتفي تونس يوم 8 مارس مثلها مثل سائر بلاد العالم باليوم العالمي للنساء، و يشكل هذا اليوم مناسبة للوقوف على معانيه ودلالاته والنظر إلى واقع النساء وافاقه ومن ثمة جعل هذا الاحتفال فرصة لحشد الدعم لحقوق المرأة والإسهام في تحقيق تطلعاتها إلى الحرية والمساواة.
بقلم فتحي الهمامي *
ما حقيقة يوم 8 مارس؟
انبثق – في الأصل – اليوم العالمي للمرأة من الحراك العمالي النسائي وارتبط بنضالهن من أجل حقوقهن. ففي مثل هذا اليوم من سنة 1908، انطلقت ألاف النساء في مسيرة احتجاجية في شوارع مدينة نيويورك الأمريكية، للمطالبة بالتقليل من ساعات العمل وتحسين الأجور والحصول على حق التصويت في الانتخابات. هذه الحركة النسوية الأمريكية المناضلة كانت ولدت من رحم فعالية تاريخية سابقة ( سنة 1848)، حيث شاع في صفوفهن سخط كبير بسبب منع النساء من التحدث في مؤتمر مناهض للعبودية. وفي العام الموالي، أعلن الحزب الاشتراكي الأمريكي قراره إعتبار 8 مارس يوم وطني للمرأة. وفي السنة التالية (1910) اقترحت امرأة تدعى كلارا زيتكن جعل 8 مارس ليس مجرد يوم وطني بل عالمي. وكان ذلك في مؤتمر دولي للمرأة العاملة عقد في مدينة كوبنهاغن الدنماركية ضم 100 امرأة قدمن من 17 دولة، وكلهن وافقن وقتها على العرض. وبذلك احتفل عام 1911 باليوم العالمي للنساء لأول مرة، في كل من النمسا والدنمارك وألمانيا وسويسرا.
ومن الأحداث الفارقة فيما بعد في تاريخ الحركة النسوية العالمية ذلك اليوم المشهود (8 مارس 1917) الذي شهد نزول نساء روسيات في الشوارع في تظاهرة تحت شعار “من أجل الخبر والسلام”، لتجبر القيصر على الاعتراف بحقهن في الإنتخاب. (1)
8 مارس في الأمم المتحدة
الأمم المتحدة من جهتها بدأت في الاحتفال بذلك اليوم منذ عام 1975 ثم أقرته بصفة رسمية في 1977 يوما دوليا من ضمن عدد من الأيام تحتفي بها كل عام وأسمته “يوم الأمم المتحدة لحقوق المرأة والسلام الدولي”.
وفي كل عام تختار هيئة الأمم المتحدة قضية تتصدر الاحتفاء بالنساء في يومهن، وهذه السنة يكون تحت عنوان “المرأة في القيادة: تحقيق مستقبل متساوٍ في عالم الكوفيد-19”.
ويعد ذلك الاختيار إعترافا بالجهود الهائلة التي تبذلها النساء والفتيات حول العالم، لتشكيل مستقبل أكثر مساواة وللتعافي من وباء كورونا.
ويأتي هذا الموضوع تماشيًا مع أولويات أقرتها الأمم المتحدة مثل المشاركة الكاملة والفعالة للمرأة واتخاذ القرار في الحياة العامة، وكذلك القضاء على العنف، وتحقيق المساواة بين الجنسين والتمكين وغيرها.
وتعتبر هيئة الأمم المتحدة أنّ النساء وقفن في الخطوط الأمامية في مكافحة كورونا، سواء في مجال الرعاية الطبية أو المنظمات المجتمعية أو حتى كبعض القياديات، حيث أظهرت القيادات النسائية والمنظمات النسائية مهاراتهنّ ومعارفهنّ وشبكاتهنّ للقيادة الفعالة في جهود مكافحة جائحة الكوفيد-19 والتعافي منه.(1)
الأمم المتحدة ومناصرة قضية المرأة
إنطلق اهتمام الأمم المتحدة بقضايا المرأة منذ انبعاثها، فمن بين المقاصد المعلنة في المادة 1 من ميثاقها ’’تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء.‘‘
وأكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948، من جديد على أنه ’’يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق‘‘ وبأن ’’لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين… أو المولد، أو أي وضع آخر.‘‘ ولتعبئة المناصرة لحقوق النساء:
– أعلنت الجمعية العامة عام 1975 السنة الدولية للمرأة ونظمت بالمناسبة المؤتمر العالمي الأول المعني بالمرأة، الذي عقد في المكسيك،
– ثم أعلنت السنوات 1976 – 1985 عقد الأمم المتحدة للمرأة،
– وفي عام 1979 اعتمدت الجمعية العامة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، التي غالبا ما توصف بأنها الشرعة الدولية لحقوق المرأة،
– وفي عام 1980 عقد المؤتمر العالمي الثاني المعني بالمرأة في كوبنهاغن،
– وفي عام 1985 عقد المؤتمر العالمي الثالث لاستعراض وتقييم منجزات عقد الأمم المتحدة للمرأة : المساواة والتنمية والسلام في نيروبي،
– ثم المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة، الذي عقد في بكين في عام 1995،
– وفي 2 جويلية 2010 تم إنشاء هيئة واحدة للأمم المتحدة خاصة بالمرأة تسمى هيئة الأمم المتحدة للمرأة والتي تدمج أربع وكالات ومكاتب دولية وهي: صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة، شعبة النهوض بالمرأة، ومكتب المستشارة الخاصة للقضايا الجنسانية، والمعهد الدولي للبحث والتدريب من أجل النهوض بالمرأة.(1)
8 مارس يوم تونسي بامتياز
للحركة النسوية التونسية تاريخ طويل من الكفاح في سبيل التحرر ومن أجل الوصول إلى المساواة مع الرجل. كيف لا وقد أحرزت النساء في تونس ونالت حقوقا هامة تشهد على ذلك. وقد شكل 8 مارس عيدا ثان للمرأة مساو للعيد الأول (13 أوت: ذكرى انبعاث مجلة الأحوال الشخصية). فهما عيدان توأمان، يلبس فيه الأول حلة رسمية في حين يكتسى الثاني بلباس شعبي. مما يجعل من تونس تقريبا البلد الوحيد في العالم الذي يحتفي بالمرأة في مناسبتين في العام الواحد. ويمكن القول أنه منذ إقراره يوما عالميا قامت الأنشطة بمناسبة ذلك اليوم في أوساط الحركة الحقوقية (رابطة حقوق الإنسان) والحركة النسوية والطلابية المستقلة وبعض أوساط الحركة العمالية (إتحاد الشغل).
ولكن بدايات الاحتفال الموثقة أظنها تعود إلى يوم 8 مارس سنة 1980 من خلال تظاهرة أقامها نادي الطاهر الحداد (إطار ثقافي نسوي مستقل أسس في 1977) كان موضوعها في ذلك الوقت : قضية العمل بالنسبة للنساء. (2)
8 مارس في تونس: سليل حركة نسوية وتقدمية عريقة
تونس ذات الإرث الحداثي العريق، ومنذ العقد السادس من القرن التاسع عشر أشار أحمد ابن أبي الضياف إلى ضرورة تعليم المرأة. كما أفرد محمّد بن عثمان السنوسي لذات القضية سنة 1897 كتابا. وكانت جريدة الحاضرة قد طالبت قبل ذلك (سنة 1888) بتحرير المرأة.
يذكر أيضا أن الشيخ عبد العزيز الثعالبي قد تناول قضية حقوق المرأة في كتابه الفكر التحرري في الإسلام الصادر سنة 1906.
وفيما بعد شغلت قضية تمكين المرأة من حقوقها في التعليم عدّة مثقفين، أمثال محمد بن الخوجة والصادق الزمرلي وحسن حسني عبد الوهاب الذي أصدر في سنة 1917 كتابه المرجع “شهيرات تونسيات”. ولم تلبث ان تطوّرت بعدئذ تلك المواقف ففي سنة 1928 رأت البعض من النسوة، ومن بينهن حبيبة منشاري، بحق المراة في الخروج سافرة. وقد كان لمنوبية الورتاني عام 1924 السبق في إعلان حقها في ممارسة حرية اللباس إذ قدمت ندوة في نادي أدبي في تونس وقد ظهرت للعموم دون حجاب. ويشكل كتاب الطاهر الحدّاد “إمرأتنا في الشريعة والمجتمع” الصادر في أكتوبر 1930 منعرجا تاريخيا في مسار تحرر المرأة إذ قدم تصورا من داخل الإسلام يقول بحق المرأة التام في الحرية والكرامة.
كما دعا الهادي العبيدي سنة 1928 إلى تولي النسوة ذاتهنّ تأسيس جمعيات ونواد خاصة بهنّ. و بالفعل ظهرت في سنتي 1931 – 1932 جمعية خيرية اسمها “جمعية النساء المسلمات”. ثم تأسس الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي في ماي 1936. وقد تقدّم هذا الإتحاد الفريد من نوعه آنذاك بطلب للحصول على التأشيرة في سنة 1938، باسم كلّ من بشيرة بن مراد والسيدة القروي ونبيهة بن ميلاد، زوجة الدكتور أحمد بن ميلاد.
ولا يمكن نسيان بالطبع مشاركة المرأة التونسية مع الرجل في المظاهرات التي نظمت قبل أحداث 9 أفريل 1938 وهن حاملات اللافتات المطالبة بدستور تونسي وبرلمان تونسي. كما تم بعث اتحاد نساء القطر التونسي إبان الحرب العالمية الثانية (1944) أسهمت في تأسيسه ثماني عشرة تونسية منهنّ نبيهة بن ميلاد وحفيظة دراج وشريفة سعداوي وزهرة بن سليمان وصوفية زويتن ونائلة جراد.
وقد عانت النساء الناشطات في المجال الوطني كما الرجال من عسف المستعمر إذ قبض أثناء زيارة رئيس الوزراء الفرنسي في جانفي 1939 على اثنتي عشرة امرأة بباب سعدون بتهمة التشويش في الطريق العام. وصدرت ضدهن أحكام تتراوح بين الشهر ونصف الشهر.
وشاركت النساء أيضا في الكفاح المسلح فيما بين سنتي 1952 و 1954 حيث قمن بمعاضدة المقاومين المسلحين في الجبال بتوفير المؤن لهم.
كما التأم في ديسمبر 1955 اجتماع نسائي ضمّ حوالي 300 امرأة، شكلن وفدا لتسليم عريضة يوم 16 ديسمبر 1956 للوزير الأكبر الطاهر بن عمّار مطالبات بحقوقهنّ المدنية والسياسية بالتساوي مع حقوق الرجل.(2)
ذلك غيض من فيض من تاريخ عريق للحركة النسوية والتقدمية في بلادنا، إنبثق عنها وإلتقت أيضا بإرادة لا تلين لدى قادة الحركة الوطنية وخاصة منهم الزعيم حبيب بورقيبة في الاستجابة إلى حقوق النساء الطبيعية. فأفضى ذلك فيما أفضى إلى إصدار مجلة أحوال شخصية طلائعية في 13 أوت 1956 ، وإلى إعطاء النساء الحق في التصويت سنة 1957.
8 مارس يوم نضالي جديد
8 مارس هذه السنة كالعادة لن تهدأ فيه الحركة المطالبة بالمساواة والمناهضة لكافة اشكال التمييز ضد النساء. بل بالعكس سيستمد من هذا اليوم ( 8 مارس) شحنة إضافية تعين على مواصلة المسار الصعب والطويل. وفي هذا المشوار -ما بعد الثورة- ورغم وصول قوى رجعية إلى السلطة وتنامي الروح المحافظة السلبية، رأت بعض المكاسب النور بفضل جهد المجتمع المدني ومن بينها:
– رفع تحفظات الدولة التونسية (23 أفريل 2014 ) على بعض ما جاء في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة،
– إقرار قانون في 10 نوفمبر 2015 يسمح للأم أن ترخص لابنها القاصر باستخراج جواز سفر أو السفر مثلها مثل الأب،
– إصدار القانون الأساسي عدد 58 (أوت 2017) المتعلق بالقضاء على العنف ضد المراة،
– إلغاء المنشور المتعلق بمنع المراة المسلمة من التزوج بغير المسلم (2017).
ومع ذلك يتواصل التطلع في هذا اليوم الرمزي إلى مجتمع آخر جديد خال من:
– أشكال القهر الاقتصادي والاجتماعي وأشكال التشغيل الهش (الفلاحات /المعينات المنزليات…) وهي من المظاهر السلبية المتواصلة في حياة المراة.
– أنواع العنف ضدها (في العائلة والشارع) والذي تشهد ارتفاعا وبشكل حاد، مما يزيد من عدد الضحايا في صفوفهن.
– الأنماط الاجتماعية والثقافية القائمة على تفوق الرجل والتي لا تزال سائدة في أوساط من المجتمع. وهذا ما يدعو التقدميين إلى مزيد العمل والجهد القائمين على تغيير العقليات وعلى تنمية فكرة المساواة بين المراة والرجل.
ومن الآليات المؤدية لذلك ندعو إلى إيلاء العمل الثقافي والفكري الأهمية اللازمة، والذي لابد أن يترافق مع النضال على تغيير المنظومة التشريعية لتكون متلائمة أكثر مع المعايير الدولية لحقوق المراة وحقوق الإنسان ومن بين المطالب في هذا الباب:
– الانضمام إلى اتفاقية منظمة العمل الدولية المتعلقة بالقضاء على العنف والتحرش في ميدان العمل،
– إلغاء التمييز في قانون الجنسية التونسية من بين ذلك مثلا الاعتراف للأجنبي الذي يتزوج من تونسية بحق الحصول على الجنسية،
– إلغاء التمييز في شروط الزواج من بينها تحقيق المساواة بين الأب والأم في الموافقة على زواج طفلهما القاصر،
– إلغاء التمييز في المواريث،
– إلغاء التمييز في الواجبات الزوجية من بينها إلغاء نظام رئاسة العائلة (3).
* عضو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
هوامش :
(1) انظر موقع الأمم المتحدة الخاص بالمراة.
(2) أنظر موقع الموسوعة التونسية المفتوحة.
(2) Mobilisations des femmes et mouvement féministe en Tunisie Dorra Mahfoudh, Amel Mahfoudh Dans Nouvelles Questions Féministes 2014/2 (Vol. 33)(3) أنظر تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة الجزء الثاني (في المساواة).
شارك رأيك