أنجز هذا التحقيق في إطارمسابقة في كتابة المقالات حول الحقوق البيئية نظمها المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والاجتماعية وهو يصور الانتهاكات الحاصلة (الحق في الماء/الحق في بيئة صحية ونظيفة) في جهة القيروان من خلال المعاناة اليومية لزينة عاملة النظافة.
بقلم ناجح الزغدودي (القيروان)
عندما انتقلت زينة من العمل الفلاحي كأجيرة الى عاملة بشركة نظافة، كانت تأمل ان يكون وضعها المهني أكثر ضمانا وتكون صحتها في أمان أفضل وان تجد الراحة البدنية والنفسية. ولكنها وجدت نفسها في مواجهة مخاطر العدوى قد يكون فيروس كورونا أقلها خطورة. بيدين عاريتين لم تلمسا أي قفاز مخصص للعمل في مجال جمع النفايات، تتنوع حركة زينة جيئة وذهابا تارة ومنحنية تارة لالتقاط الفواضل التي يلقيها المارة، او معرجة على محل تجاري تفرغ سلته التي كانت تترقب قدومها. تقطع زينة يوميا بضع كيلومترات وهي تجفع عربتها الخضراء التي كلما ملأتها اكثر كلما صعب دفعها باتجاه أماكن عملها وباتجاه مصب النفايات في النهاية عند أخر دوم عملها.
تبدأ زينة العمل منذ الخامسة فجرا أين تجد الشاف بانتظارها ليفتح المستودع ويسلمها معدات العمل. ولذلك عليها أن تستيقظ قبل موعد عملها بأكثر من ساعتين تقتسمها بين إعداد طعام أبنائها التلاميذ ليجدوا طعامها جاهزا قبل الذهاب إلى المدارس، وطعام زوجها المقعد بالمنزل. وتستغل اخر ما تبقي من الوقت لتسابق الزمن اتجاه العمل.
من العمل الفلاحي الى النظافة
منذ سنوات لم يتغير موعد بدء يوم العمل عند زينة. فعندما كانت تشتغل في العمل الفلاحي، كانت تستيقظ باكرا أيضا لتلحق بالشاحنة التي تقلها مع باقي العاملات باتجاه الحقول القريبة والبعيدة. وها هي اليوم أيضا تشرق قبل الشمس. لا يميزها عن باقي المواطنين سوى سترة العمل البرتقالية ومكنستها التي لا تفارق يديها إلا عندما تدفع العربة الخضراء.
تقضي ساعات العمل التي تنتهي عند الواحدة ظهرا في مطاردة الفواضل الملقاة والأوساخ والأتربة التي تقع في مضمار عملها المحدد. فتقطع بضع كيلومترات ترفع ما يسقطه الناس وتزيل ما يرمونه على الأرض وتجمل ما يلوثون كأنها تريد معاتبتهم. ولكنها كانت صامتة ترد على تحية صباح الخير برقة أجمل وتتعلق عيناها بالأرض كأنها نسيت أن تحلم أو أن ترعى السماء بحثا عن أمل مفقود.
مع انتصاف النهار تكون زينة قد اقتربت من ساحة باب الجلادين، تتم عملها وبعد ان تطمئن الى نظافة الشارع تدفع العربة امامها فتدفعها تارة عند الطريق المرتفع وتدحرجها عند انخفاضه حتى بلوغ المصب البلدي فتفرغ حمولتها ثم تتجه الى المستودع لترجع معدات العمل والسترة وتستعيد حريتها باتجاه أسرتها ولا تهتم بغسل يديها أو تناول طعام أو قياس درجة حرارة أو غيرها من إجراءات الوقاية.
حقوق لا ترضي الشركة
بخالف كونها قريبة من محل إقامتها بمدينة القيروان وبعض الراحة، لا تجد فرقا كبيرا بين العمل الفلاحي وعمل النظافة سواء من حيث الأجرة الزهيدة التي تساوي في كلا الحالتين أقل من 14 دينار باليوم. أو سواء تعلق الأمر بالتغطية الصحية والضمان الاجتماعي. فلا هي مضمونة اجتماعيا ومؤمنة في العمل الفلاحي، ولا هي حصلت على حقها في التغطية الصحية منذ سبعة سنوات من العمل.
وأكدت زينة أن التزامها المادي تجاه أسرتها وكونها العائل الوحيد لأطفالها المتمدرسين ووفائها لزوجها المريض، هو ما يجبرها على العمل في صمت وعدم رفع الصوت للمطالبة بالحقوق المهنية ولا حتى بالوقاية من مخاطر العدوى في ظل تداعيات جائحة كورونا ومن مخاطر التلوث والأوساخ.
لا تتمتع زينة بفحص طبي ولا وسائل وقاية وهي وضعية مهنية أقل شأنا من عامل النظافة لدى بلدية القيروان الذي يتمتع بحقوق مهنية وأجرة وعقد شغل ثابت ومنح أعياد ومنحة عائلية.
وعلاوة على أن عامل النظافة معرض للإصابات والجروح بسبب حمل نفايات صلبة أو تعرضه لتأثيرات الغبار والروائح في الشوارع وعند المصبات، فإن هذا كله لم يكن سببا مقنعا لتمتيعهم بالتامين الصحي.
زينة ليست وحدها التي تواجه هذا الوضع المهني الهش. فزميلتها في نفس الشركة فوزية ايضا لم تستطع منذ ست سنوات من العمل ان تطلب من مؤجرها تمتيعها بحقها في التغطية الصحية والتأمين الاجتماعي ولا حتى مطالبته بواقية للوجه أو قفازات. بل ان فوزية كانت تضع جزءا من غطاء الرأس على فمها ظنا منها أنه سيقيها من تأثيرات المحيط الذي تعمل فيه والروائح الكريهة وعدوى فيروس كورونا.
وأكدت فوزية أنها لا تتمتع بأية عطلة ولم تتمكن من الذهاب إلى الاصطياف صيفا بسبب التزامها المهني والتزاماتها العائلية. وأكدت أن أجرتها أحيانا تنقص عن 400 دينار عندما تتغيب أو تحصل على راحة لظرف أسري طارئ.
تعتقد العاملات اللاتي تحاورت معهن في هذا التحقيق، أن المطالبة بهاته الحقوق سيغضب إدارة الشركة ويهدد وجودهن بها لذلك يخيرن العمل في صمت دون تلك الحقوق لضمان الحصول على أجرة شهرية هن في أمس الحاجة إليها حتى وإن نقصت بعض الدنانير من شهر لاخر بسبب يوم عطلة أو يوم عيد.
بخلاف زينة وبعض النساء، يتمتع الرجال بتغطية صحية واجتماعية وذلك بسبب حرصهم على المطالبة بهاته المستحقات حتى وإن كان في فترة متقدمة من العمل.
وجها لوجه مع الوباء
بدأ الشاذلي الوهيبي (خمسيني) العمل بالشركة منذ تأسسها وبدء تعاقدها مع بلدية القيروان. استطاع أن يضمن لنفسه بعض المستحقات المهنية مثل منحة عائلية وتغطية اجتماعية وبطاقة العلاج. أما وسائل العمل فقد طالب بتجديد القفازات بعد أن تاكلت قفازاته التي تسلمها قبل سبع سنوات ورافقته صيفا وشتاء.
يؤكد الشاذلي غياب أية مراقبة صحية لأعوان النظافة سواء في السنوات الماضية، لحمايتهم من مؤثرات محيط العمل خاصة وانهم يعملون دون زي رسمي واقي من الأوساخ والجراثيم، كما لم يتم في ظل جائحة كورونا وما تستوجبه من وسائل وقاية وحماية صحية، تزويدهم بأية وسائل عمل غير واقي الوجه ذي اللون الأخضر. وهو واقي وحيد (كمامات) عليه أن يغسلها ويعيد استعمالها.
فوزية لم تجمع شجاعتها بعد للمطالبة بحقها في دفتر العالج. إدارة الشركة لم تبادرها ولم تطلب منها أية وثائق وهي بدورها لا تعرف إن كان من حقها الحصول على تلك الحقوق.
معظم العاملات بشركة النظافة تجاوزن العقد الرابع. يجمع بينهن قساوة الظروف الاجتماعية وعجز الزوج عن العمل أو لفقدان الزوج أو بسبب الطلاق. ويعتبرن أن العمل حاجة ملحة بالنسبة اليهن.
تجربة العمل بشكل عشوائي وغير مؤمن في قطاعات أخرى أو من أعمال حرة مثل بيع خبز الطابونة أو العمل كمعينات منزليات أو العمل الفلاحي خلق لدى العاملات عنصر الاعتياد وتعودن التنازل عن حقوقهن ويعمق هذا التغاضي أو التنازل أكثر عدم وجود من يحسسهن بهاته الحقوق أو من يضمنها بشكل تلقائي بموجب العقود وكراس الشروط والالتزامات القانونية.
بصفتهم عمال كنس على الطرقات، يجمع عمال وعاملات النظافة جميع الفواضل والأوساخ الملقاة على قارعة الطريق. وهم يعملون بطرق تقليدية ووسائل عمل بسيطة.
التأمين لمن يطلبه فقط !
إحدى الشركات تغطي مساحة واسعة بعدد لا يتناسب مع اتساعها ولا يتجاوز 80 عاملا مقسمين بين وردين حسب توضيح مسؤول بالشركة.
خلال محاورة العمال أمامه اعترض مسؤول الشركة على سؤال بشان عدم توفر وسائل النظافة لفائدة العمال بعد إتمام ورد العمل وتسليم المعدات. فمستودع إيداع المعدات وهو مجرد مستودع على سبيل الكراء تستغله الشركة، لا يوفر حنفية وصابون لغسل الأيدي ناهيك عن غرف تغير الملابس أو غرف استحمام (أدواش).
بمجرد اتمام العمل ينزع العامل السترة البرتقالية ويسلمها إلى الشركة ليحملها عامل أو عاملة أخرى في الورد التالي الذي يبدأ العمل من الرابعة مساء إلى حوالي منتصف الليل. في حين يعود عامل النظافة والعاملات إلى منزلهم بنفس اللباس الذي رافقهم في رحلة جميع النفيات وهو ما يحتمل حمله لجراثيم وغبار وأوساخ ونقلها إلى منزله.
في توضيح بشان التغطية الصحية والاجتماعية، أكد ممثل الشركة أن من يطلب التغطية الصحية تتم الاستجابة لطلبه ومن يطلب وسائل عمل مثل قفازات أو واقي وجه (كمامات) توفرها له الشركة حسب قوله.
اما الوقاية من الأمراض والجراثيم ومن جائحة كوفيد، فأكد ممثل الشركة أنه يقوم يوميا بتذكير العمال بإجراءات الوقاية والسلامة. كما قال أن بعض العمال يرفضون لبس القفازات وزي العمل.
عقود بلا رقيب
تتعاقد بلدية القيروان مع شركات نظافة للقيام بأعمال النظافة والكنس ويخضع التعاقد إلى كراس شروط يحدد تفاصيل دور الشركة و أيضا متعلقات العمال من حيث عددهم والاستحقاقات المهنية من تغطية صحية وملابس عمل ومعدات وجوانب تهم الوقاية كما يبينه “كراس الشروط الإدارية الخاصة النموذجي المطبق على الصفقات العمومية الخاص بالتزود بخدمات التنظيف” خاصة في العنوان الأول شروط طلب العروض.
وينص التعاقد على توفير جملة من الوثائق حول عدد العمال والعقود الخاصة بهم وعقود تأمين فريق العمل ولبس الشغل. كما ينص كراس الشروط على أن الإخلال بحملة من هاته الشروط يوجب فسخ العقد مع الشركة.
ولا يعلم العمال بشأن تفاصيل هذا التعاقد وشروطه خاصة الأجرة القانونية والمنح المدرجة ضمن ملف طلب العروض والتي يضمنها القانون من ذلك أن مدة العمل بالشهر 26 يوما. وتفاصيل مالية تهم التكوين المهني و أيام العطل خالصة الآجر والراحة السنوية خالصة الآجر ومنحة النقل ولباس الشغل والتأمين ضد الحوارث المهنية.
تتحمل بلدية القيروان، من خلال كاتبها العام مسؤولية تطبيق بنود التعاقد الواردة بكراس الشروط. غير أن وجود هاته الإخلالات والنقائص في حق العمال خصوصا عدم توفر زي العمل والتغطية الاجتماعية لبعضهم والتأمين الصحي ومسالة الأجور والمنح والعطل، تطرح أكثر من سؤال بشأن مراقبة مدى تنفيذ بنود الإتفاق والتي تهدف أولا الى ضمان نجاعة العمل من الجانب البيئي في ما يخص وسائل العمل وعدد العمال المطلوب والتجهيزات. وأيضا من ناحية حماية الموارد البشرية من انعكاسات العمل البيئي الذي ينطوي على خطورة.
تهدف الشركة الى الربح. وتعمل عادة عند المشاركة في الصفقات إلى تقديم طلب عروض يحظى بالقبول فيكون العرض المالي الأقل هو العرض الفائز. ولكن الهروب من المأزق المالي يكون بعد الفوز بالصفقة من خلال قضم مستحقات العمال وضمن حقوقهم المهنية مستندين إلى غياب الرقابة والإفلات من المحاسبة ومراهنين على صمت العمال الذين يخيرون العمل في صمت بحقوق دنيا وهو المرتب الشهري، على الاحتجاج والمطالبة بكامل المستحقات والذي ينتهي عادة إلى الطرد لأن الشركة الخاصة تخشى دوما العامل الذي يعرف حقوقه ويطالب بها وتستند الى حاجة العمال خاصة النساء المعيلات للأسر إلى العمل لتوفير مورد رزق في ظل ضعف النسيج الاقتصادي وغياب هيكل نقابي صلب هته الشركات يمكن ان يدافع عن المطالب الاجتماعية.
أنين بلا شكوى ولا معين
تطالب المنظمات الحقوقية المساندة لحقوق الإنسان والحقوق المهنية والاقتصادية دوما بضمان الحد الأدنى من المستحقات المالية مثل الأجر الصناعي الأدنى والمطالبة بتشديد المراقبة على شركات المناولة التي ثبت مرارا هضمها لحقوق العمال وسوء استغلالهم.
وتعمل عديد المنظمات الحقوقية على زيادة مستوى وعي العمال خصوصا النساء بصفتهن الأكثر عرضة للاستغلال الاقتصادي في مختلف المجالات سواء من ناحية الأجور التي تكون أدنى من أجور الرجال او التغطية الصحية او استغلال حاجة النساء للعمل او مسالة الخوف من فقدان الشغل.
وهو ما يستوجب ضغطا مدنيا وحقوقيا على الإدارة العمومية صاحبة الصفقة لتلتزم بواجب تطبيق بنود التعاقد وكراس الشروط. كما يستوجب على صندوق الضمان الاجتماعي القيام بعمل ميداني لمعاينة مشاغل العمال الذين يتم إيهامهم بجود تغطية اجتماعية لكن سرعان ما تتوقف أو تكون أضعف من المتفق عليه قانونيا وتقوم بمحاسبة الشركات التي تتعمد التهرب من ضمان التغطية الاجتماعية والصحية. كما يجب على تفقدية الشغل العمل بدورها على زيارة الشركات والاستماع إلى العمال الذين يخشون من التصريح لوسائل الاعلام او الشكوى للشركة او البلدية.
كانت زينة والشاذلي وفوزية من العمال الذين عبروا عن شجاعتهم في التصريح حول وضعهم المهني والصعوبات التي تعترضهم والمشاكل الصحية التي يواجهونها، في حين لاذ عمال وعاملات اخرون بالصمت معتبرين أن الشكوى لن تغير من واقعهم وأنهم يخشون على قوت أولادهم من سوء العاقبة. إنهم ولدوا في هاته البيئة المحفوفة بالصعوبات,
شارك رأيك