تتأكّد، يوما بعد يوم، العلاقة العضوية بين حركة النهضة والاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، ما جعل من فرع الاتحاد في تونس الذي تقوده شخصية نهضاوية مجرّد واجهة للحركة الإسلامية التونسية تستفيد منه وتُسوّق في ندواته ومؤتمراته وأطره التعليمية مبادئها وأفكارها وتستقطب الأنصار وتروج سياساتها.
بقلم الدكتور سالم لبيض *
يبدو أن الصراع القديم المرير في تونس بين “الدستوريين” والإسلاميين آخذ في التصاعد من جديد، ما عمّق الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، وفجّر انقساما حادّا بشأن الموقف من الفرع التونسي للإتحاد العالمي للعلماء المسلمين الذي ظهر سنة 2004 بمبادرة بعض المشتغلين بالحقل الديني الإسلامي، من المشائخ والفقهاء الجدد والدعاة الإسلاميين، والذي اختار دبلن مقرا قانونيا له والدوحة مقره الإداري، وكان يوسف القرضاوي رئيسه إلى حدود سنة 2018، وأعقبه في المنصب المغربي أحمد الريسوني، رئيس حركة التوحيد والإصلاح السابق، وممن يضمهم مجلس الأمناء حاليا عضو مجلس الشورى في حركة النهضة والنائب في المجلس الوطني التأسيسي رئيس فرع تونس للاتحاد، عبد المجيد النجار، ووزير الشؤون الدينية الأسبق، نور الدين الخادمي. وضم مجلس الأمناء سابقا زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي.
وقد افتتح للإتحاد فرع في تونس سنة 2012، بترخيص من حكومة الترويكا الأولى التي ترأسها حمادي الجبالي الأمين العام لحركة النهضة آنذاك.
وقد تحوّل الاعتصام الذي نظمه الحزب الدستوري الحر أمام مقر الاتحاد أربعة أشهر متتالية، واقتحامه الثلاثاء 9 مارس/ آذار2021، بغرض غلقه، إلى معركةٍ مفتوحةٍ بين الدستوريين وأنصارهم ومن والاهم من الشخصيات والأحزاب والتيارات السياسية والفكرية من جهة والإسلاميين من حركة النهضة وائتلاف الكرامة ونوابهم في البرلمان من جهة ثانية، معركة حسمتها قوات الأمن، تنفيذا لقرار حكومي بوقف الاعتصام وإزالة خيامه.
وعلى الرغم من رفض القضاء في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 الدعاوى التي تقدمّت بها رئيسة الحزب الدستوري الحر لوقف نشاط الفرع في تونس، تواصلت هذه المعركة بضغط الدستوريين على وزارة الشؤون الدينية والإدارة العامة للجمعيات برئاسة الحكومة التونسية والكتابة العامة للحكومة، لحظر أنشطة فرع الاتحاد العالمي لعلماء الإسلاميين، لما يتولاه من نشاط تعليمي مواز للمدرسة التونسية ومقرّراتها وبرامجها، زيادة على اتهام هؤلاء له بنشر العنف وتسويق التكفير.
حلقاتٍ طويلة من الصراع العنيف الإسلامي – الدستوري
وهذه المعركة في حقيقتها هي عنوان حلقاتٍ طويلة من الصراع العنيف، الإسلامي – الدستوري، على السلطة في تونس، وهو صراعٌ يعود إلى نشأة الحركة الإسلامية في شكل تنظيم سرّي يسمّى الجماعة الإسلامية، أسسه راشد الغنوشي وتولى إمارته سنة 1972 وتحول إلى حزب سياسي يسمى الاتجاه الإسلامي سنة 1981 ليغيّر اسمه إلى حركة النهضة سنة 1989 ويخوض الانتخابات التشريعية في السنة نفسها بقوائم مستقلة، سرعان ما تحوّلت إلى معركة دموية بين الفريقين استمرّت عقدين.
ولم تدّخر حركة النهضة (الإسلامية) جهدا في هندسة الخريطة الحزبية الدستورية، بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي من هرم السلطة، فعملت على استيعاب ما أمكن لها من الدستوريين بعد حلّ حزب بن علي، التجمع الدستوري الديمقراطي، بحكم قضائي في مارس/ آذار 2011.
وبعد ظهور حزب نداء تونس سنة 2012، استجاب الإسلاميون، وهم كتلة الأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي، إلى طلب رئيسه الباجي قائد السبسي بإسقاط قانون تحصين الثورة (قانون العزل السياسي) الذي سيحرم آلاف الدستوريين من الترشّح للانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية وتولي المناصب القيادية في الدولة، وذلك في إطار التمهيد للتحالف الدستوري (نداء تونس) الإسلامي (حركة النهضة) الذي حكم تونس 2014 – 2019.
وفي الآن نفسه، شجع الإسلاميون، من موقعهم على رأس السلطة سنة 2013، الوزير الأول الأسبق ونائب رئيس التجمع الدستوري الديمقراطي، حامد القروي، وهو صديق حركة النهضة، حسب إشارته في مذكراته “حياة في السياسة” المنشورة بعد وفاته سنة 2020، على بعث حزب دستوري ثان، نال التأشيرة (ترخيص) القانونية سنة 2013 في حكم الترويكا الثانية، بقيادة علي العريض، تحت مسمى الحركة الدستورية، وذلك في محاولة لشقّ صفوف الدستوريين، وإضعاف حزب نداء تونس الذي كان يمثل ما سميت “العائلة الدستورية” آنذاك.
إلا أن تلك الحركة التي استبدلت اسمها سنة 2016 ليصبح الحزب الدستوري الحر في محاولة للاستيلاء على الإرث التاريخي الدستوري الذي انطلق بالتسمية نفسها، وبفارق في ترتيب الكلمات، مع تجربة عبد العزيز الثعالبي سنة 1920 والحبيب بورقيبة سنة 1934، قادتها عبير موسي التي ستتحوّل إلى غريم بارز للإسلاميين، يبني خطابه السياسي وعمله التعبوي على التصدّي لحركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي الذي وفّر الأرضية الخصبة لصعود موسي وحزبها، بإصراره على رئاسة مجلس نواب الشعب، على الرغم من محدودية كتلته البرلمانية (54 نائب من 217) ومن دون إجماع حول شخصه، وما صاحب تلك الرئاسة من فشل في التسيير، وعجز في الحياد.
ولم ييأس الإسلاميون، بعد انهيار حزب نداء تونس، وتحوله إلى أشلاء حزبية، ثم اندثاره الكامل من الواقع السياسي التونسي، من إمكانية إيجاد دستوريين على مقاسهم يقبلون بهم تُبّعا أو حلفاء لهم في ممارسة السلطة، والتصريح بذلك علنا، على غرار ما قاله القيادي الاسلامي، السيد الفرجاني، يوم 3 فيفري (فبراير/ شباط) 2020: “لو قبلت عبير موسى المشاركة في الحكومة فمرحبا بها”، وما ذكره القيادي في “النهضة”، عماد الحمامي، يوم 28 فيفري 2021 إن الحركة “لا تمانع في التحالف مع الحزب الدستوري الحر وأن الدستوريين هم حلفاؤنا الأقرب في كل الأحوال، وهناك قواسم مشتركة كثيرة بيننا”.
وفي هذا السياق، ظهرت فكرة الجدّ المشترك للتيارين، الدستوري والإسلامي، والمقصود بذلك الشيخ عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الحر الدستوري سنة 1920، وأحد أبرز قادة حركة الإصلاح في تونس والوطن العربي، والذي لم يكتب نصوصا أو مقالات تحيل على تأثره بفكر جماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من معايشته نشأتها في مصر سنوات عديدة.
ولمّا تبيّن فشل هذه الفكرة وتهافتها، بعد أن أُنشئ لها على المقاس سنة 2017 منتدى العائلة الدستورية الذي نظم في الغرض ورشة عمل مشتركة مع مركز الدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية الذي يديره القيادي الإسلامي وزير الخارجية الأسبق، رفيق عبد السلام، عاد هذا المركز لينشر في 14 جويلية (يوليو/ تموز) 2020 دراسة بعنوان “بورقيبة والإخوان المسلمون وثائق ومعطيات” في محاولة لإثبات العلاقة القديمة بين “الدستوريين” والإسلاميين من خلال ما ورد في بعض الجذاذات الصحفية والبيانات السياسية والصور التاريخية بعد الحرب العالمية الثانية، على غرار زيارة بورقيبة مقر جماعة الإخوان المسلمين والصورة المشتركة التي ظهرت فيها قيادات وطنية مغاربية مع مؤسس الجماعة، حسن البنا، عند افتتاح مقر لجنة المغرب العربي في القاهرة سنة 1947، ونشاط الزعيم الدستوري، محيي الدين القليبي، الذي تعتبره الدراسة ممن انتموا مبكّرا إلى “الإخوان”، في حين أن المؤرخ عبد الجليل التميمي الذي اهتم كثيرا بأعمال القليبي وقام بتحقيقها ونشرها يعتبر انتسابه للإخوان المسلمين محض افتراء.
العلاقة العضوية بين حركة النهضة والاتحاد العالمي للعلماء المسلمين
وبالتوازي مع محاولة هندسة المشهد الدستوري، تتأكّد، يوما بعد يوم، العلاقة العضوية بين حركة النهضة والاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، ما جعل من فرع الاتحاد في تونس الذي تقوده شخصية نهضاوية مجرّد واجهة للحركة الإسلامية التونسية تستفيد منه وتُسوّق في ندواته ومؤتمراته وأطره التعليمية مبادئها وأفكارها وتستقطب الأنصار وتروج سياساتها، حسب ما أثبته التحقيق الاستقصائي الذي نشره موقع نواة سنة 2018، وأنجزته الصحافية ريم بن رجب، وعنوانه “تحقيق من داخل فرع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بتونس: جهاز دعوي خفي لحركة النهضة”. وهو ما جعل نشاط الاتحاد عرضة للنقد والانتقاد، لاستعماله في الدعاية الحزبية الإسلامية، وخوضه في القضايا السياسية والعسكرية. كما أن سجلاته تضمنت بيانات وخطبا سياسية وتحريضا على حكومات عربية.
* باحث جامعي و نائب في البرلمان (الكتلة الديمقراطية).
شارك رأيك