بقلم العقيد محسن بن عيسى *
لا شكّ أنّ صناعة التاريخ تتأثر بملامح وصفات وسلوكيات الزعماء والقادة. ولا جدال في أنّ سُنن روح الجماعات تُثبت أن الشعوب لا تسير من غير هؤلاء. فهم قادة الرأي والمرشدون الى طريق النجاح والمدبّرون لحركة التقدّم، وهم بناة العمران ورُواده. ربما كان لكل زعيم قصّة واحدة، وربما كان في حياة البعض العديد من الإنجازات، ويعد الحبيب بورقيبة واحدا من الذين تحفل سيرتهم بالكثير والكثير من القصص والمواقف والإنجازات.
لقد روّج الخطاب السياسي إجمالا قبل وبعد 2011 لسياسة التضليل وترسيخ القطيعة مع التاريخ. وعمل على إبراز وتلميع صور لرموز جديدة تبحث لها عن دور قيادي وتغافل عن الأهم حيث ينبغي على هؤلاء أن يكونوا أهلا لأن يُقتدى بهم.
ترتيب المصالح في حسابات السياسة
من أين يُرجى لوطننا النجاة ولم نتّفق بعدُ على “إرثنا الوطني” الذي ينبغي أن نَبني عليه؟ فمنّا من يرى أنّ إنقاذ البلاد مطمح لن يأتي قريبا وأنّ الأمل بعيد جدّا. ومنّا من اختار الأمل والسعي لإعادة البناء على المكتسبات ضد التيار بدلا من الخوف والوحدة. وهناك من يخالف الجميع مخالفة الضد للضد وهؤلاء هم العدميون دُعاة التبعية. والواقع نحن شعب واحد وأنّ وقت الإصلاح صار أمر مُلحّا.
ألم يحن الوقت لهدم الحواجز السياسية التي فرّقتنا مدة طويلة؟ ألم نجد الحل لنتغلّب على سياسات الخوف والشك، هذه السياسات التي تركت الشعب يُبكي بعضه بعضا؟ ألم ندرك بعدُ خطر الانسياق في تيارات الإرادة الأجنبية التي تحتقر معاناتنا؟ ألم ننتهي من اللعب على وتر الدين؟ فمظاهر الإسلام والتمسك به موجودة في تونس رسميا وشعبيا ولم يتهم أحد الإسلام كما اتهمه “أتاتورك” في تركيا.
انظروا حولكم واستقرئوا واقع البلاد وأحوال المجتمع، فالبلاد بسبب الصراعات السياسية والأيديولوجيات المستوردة أصبحت على حافة الهاوية فالإفلاس يهدّدها والفوضى تنخر كيانها.
ما كل ما تخطّط له السياسة تُدركه، لقد فشلت المقاربة المبنية على القطع مع الماضي من قلب الشعب ومعاناته، لتتعالى أصوات مناديه باستعادة الدولة المدنية واسترجاع ماضيها المجيد ونضالات زعمائها لشحذ الهمم ورفع العزيمة وفي مقدمتهم الرئيس المرحوم الحبيب بورقيبة.
هل يجوز التنكّر لبورقيبة وإنكاره؟
صدقت الاتهامات أو كذبت فالرؤية الإصلاحية لبورقيبة لا يُنظر اليها بمعزل عن رؤية الدولة المستقلة وعن المجتمع “ككينونة وصيرورة” كما كان يردّد. لقد كان يأمل عبر رؤيته بناء جسور الثقة بين الدّولة والمجتمع والنظام السياسي والشعب خلافا لما يجري الآن. لقد اتسمت مقاربة بورقيبة في كفاحه وبناء الدولة بالجمع بين المهارة في اختيار السبل والسعي الحثيث للوصول الى الهدف، والتعامل مع الأوضاع دون ضياع في متاهات المهادنات والمساومات والمناورات.لقد عرف بورقيبة كيف يصنع تاريخه – لا أسطورته – وكيف يصنع تاريخ الجمهورية والدولة.
فوجئت أمس على هامش إحياء ذكرى وفاة الزعيم بخطاب الرئيس قيس سعيد والاستشهاد به فهي من الأمور التي لم تكن متوقعة إطلاقا. فالعودة إليه في هذه المرحلة من تاريخ البلاد هي موقف جديد منا لبورقيبية كظاهرة تاريخية وطنية ومجتمعية.وتغليب الحس العلمي والقانوني الذي يحاول إبرازه الخطاب الرسمي يحتاج الى قدر غير قليل من المرونة السياسية ومراجعة الذات لاتخاذ مثل هذا القرار والحديث عن مواقف بورقيبة. الزعيم– رغم بعض الخيارات السياسية الخاطئة والتي لها ظروفها- هو رجل دولة مُثقف جمع بين العلم والمعرفة وبين محبّة بلده وشعبه فضلا عن التحلّي بالصفات الأخلاقية الحميدة وفي مقدّمتها الصّدق، والإخلاص، والشجاعة والإقدام.
علينا أن نستوعب في هذه المرحلة فكرة العودة الى المنابع الوطنية وجمع تياراتها الفكرية والسياسية بمكوناتها المختلفة لمواجهة التيارات الأصولية المشبوهة والمستوردة. علينا التطلّع الى تكريس الوطنية الأصيلة على كل المستويات وعبر مختلف الوسائل المتاحة.
* ضابط سابق ف سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك