ما من شكّ من أنّ حياة الأستاذة عبير موسي أصبحت مهدّدة أكثر من أيّ وقت مضى بعد أن سُحبت منها الحماية الأمنية اللّصيقة بحكم مذكّرة صادرة عن راشد الغنوشي رئيس مجلس النوّاب شخصيّا بوصفه غريمها السياسي ولكونها رئيسة الكتلة التي تمثّل المعارضة الحقيقية تحت قبّة البرلمان وتترأس الحزب الدستوري الحر الذي يرى في نفسه ورِيث الحزب الحرّ الدستوري الجديد مُحرّر البلاد وباني دولة الاستقلال.
بقلم الأسعد بوعزي *
هذا الحزب الذي نجح بفضل ثورة التنوير في توعية الشعب التونسي بمدى المخاطر التي تهدّده وأصبح يكتسح نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية وبفارق كبير عن حركة النهضة التي فشلت فشلا ذريعا في حكم البلاد خلال العشرية الماضية والتي تمثل الإسلام السياسي العدوّ التاريخي والأيديولوجي للحزب الدستوري الحر.
وبما أن الرهانات التي ترفعها الأستاذة موسي أصبحت تكتسي صبغة حيويّة بالنسبة لحركة النهضة التي تتزعّم التحالف البرلماني الدّاعم للحكومة، لم يجد رئيسها من حلّ (وهو رئيس البرلمان) سوى تعمّد حرمانها من حراستها الأمنية اللّصيقة بما يعرّض سلامتها الجسدية لخطر وُصِف بأنه قائم وجدّيّ يمكن أن يباغتها في أي لحظة داخل البرلمان. مثل هذا القرار الذي يشكّل جريمة طبقا للقانون تمّ اتخاذه بعد أن فشلت كلّ الجهود الرامية الى إخفات صوتها داخل المجلس ومحاصرتها إعلاميّا خارجه.
وسعيا منها إلى استعادة حمايتها الأمنية بما يضمن سلامتها داخل البرلمان ناشدت الأستاذة موسي تدخّل رئيس الحكومة المكلّف بمهامّ وزير الداخلية بالنيابة ورئاسة الجمهورية التي يرجع لها الأمن الرئاسي داخل مجلس نوّاب الشعب بالنظر دون جدوى كما لم تجد أيّ تعاطف من عميد المحامين الذي استجارت به من أجل مساندتها وتبنّي قضيتها.
تجدر الإشارة في هذا المجال الى أن الحماية الأمنية اللّصيقة لا يتمّ إسنادها إلاّ بتوفّر تهديدات جدّية ناتجة عن تقييم أمني دقيق أو معلومات استخباراتية مؤكدة وهي من الناحية التقنية عملية شائكة ومعقّدة ومركبة تقوم على الاختصاص الميداني ونجاحها يكمن في الاستمرارية والملازمة اللّصيقة ووحدة العنصر الأمني الضامنة لبناء الثقة بين المؤمّن والمؤًمّن عليه. ولا بدّ من التأكيد على أن هذه الحماية يتمّ إسنادها بأمر مكتوب ولا يتمّ رفعها إلاّ بأمر مكتوب لا بأوامر شفوية كما هو الحال بالنسبة لحماية الأستاذة موسي.
وفي ظلّ هذا الوضع العدائي الذي أصبح يحتّم على رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر المخاطرة بحياتها من أجل ألقيام بواجبها البرلماني وأمام امتناع مؤسسات الدولة عن تأمين سلامتها الجسدية فإن اللّجوء الى للإتحاد البرلماني الدّولي يصبح أمرا حتميّا لإيجاد حلّ لهذه المعضلة
الإتحاد البرلماني الدّولي مدافع عن حقوق الإنسان و مناصر للمرأة
تمّ بعث الإتحاد البرلماني الدّولي سنة 1889 وهو بذلك يُعدّ من أقدم التنظيمات الدّولية التي تسعى الى النهوض بالعمل البرلماني من أجل إرساء السّلم والأمن العالميّين ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان في شتّى أنحاء المعمورة.
ولتحقيق هذه الغايات النبيلة كان له دور أساسيّ في إنشاء عِصبة الأمم la société des nations سنة 1919 التي تمّ تعويضها بمنظمة الأمم المتحدة سنة 1945 (أين يتمتّع بصفة مراقب) كما ساهم في إرساء محكمة التحكيم الدولية (التي أصبحت تُعرف بمحكمة الجنايات الدولية) سنة 1929 وهي كلّها إنجازات تعبّر عن شرعيته ومشروعيته وتُكسبه وزنا سياسيا ليكون عنصرا مؤثرا في السياسات الدولية.
اليوم أصبح الإتحاد البرلماني الدّولي قوّة ضغط حقيقية تظمّ 179 عضوا و13 شريكا مثل الإتـحاد البرلماني الإفريقي والبرلمان العربي والبرلمان الأوروبي وغيرهم من البرلمانات الإقليمية.
ومن أهمّ الأهداف التي يسعى الإتحاد البرلماني الدّولي الى تحقيقها إلى جانب إرساء السلم وتحقيق التنمية المستدامة نذكر حقوق الإنسان التي لا يمكن تحقيق الديمقراطية والرّفاه بدونها.
وفي هذا المجال فإن الإتحاد البرلماني الدّولي يعتمد على هيئة حقوق الإنسان للبرلمانيين وهي آلية جدّ فعّالة وناجعة للدفاع عن البرلمانيين الذين يعانون من العنف والاضطهاد والتمييز والتهديد بالقتل لمنعهم من القيام بواجباتهم. وفي هذا السياق فإن الهيئة بصدد معالجة 610 حالة اعتداء تمّ تسجيلها سنة 2021 وهي بصدد متابعة 40 حالة تمّ الحكم فيها ومنها حالة النائب عن الحزب الدستوري الحر السيدة عبير موسي.
وضمن ملف حقوق الإنسان فإن الإتحاد البرلماني الدّولي يولي أهمية خاصّة للنهوض بالمرأة البرلمانية.
يتّضح ذلك في ما صرّح به كلّ من رئيس الإتحاد البرلماني الدّولي ورئيس البرلمان الأوروبي في أحد المؤتمرات الذي جمعهما حيث اعترفا بأنه رغم التقدّم الذي تمّ إحرازه في ميدان حقوق المرأة فإن المساواة بينها وبين الرجل لا تزال بعيدة عن التحقيق وأكّدا على ضرورة مواصلة الدّفع من أجل إصدار النصوص القانونية التي تضمن هذه المساواة كما ندّدا بكل مظاهر العنف والتمييز التي تتعرّض لها المرأة اينما كانت.
وللتأكّد ممّا ورد ذكره يكفي أن نلاحظ ما يشمله المخطّط المديري لعمل الإتحاد البرلماني الدّولي (للفترة القادمة) من أهداف تسعى الى تحقيق التناصف والمساواة والاستقلالية لنقف على الأهمية التي يوليها الإتحاد للمرأة عموما وللمرأة البرلمانية على وجه الخصوص.
هل من حقّ الإتحاد البرلماني الدّولي التدخّل في الشؤون الداخلية للدّول؟
ما من شكّ من أن المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة أصبحت تتدخّل في الشؤون الدّاخلية للدّول باسم حقوق الإنسان إذ لا ننسى أن بعض الحروب الحديثة قامت على هذا الأساس ومنها الحرب على كوسوفو التي تهدف الى حماية الأقلّيات أو الحرب على ليبيا التي دارت تحت شعار حماية المواطنين من بطش القذّافي.
وإن كانت أغلب المنظمات الدولية غالبا ما تتستّر بغطاء حقوق الإنسان لتحقيق أهدافا سياسية واقتصادية تدخل ضمن مخططاتها الجيوستراتيجية فإن كلّ تدخلات الإتحاد البرلماني الدّولي تهدف الى حماية البرلمانيين والدفاع عنهم بالاعتماد على ملفّات مدعّمة بالوثائق والحجج.
عديدة هي الدّول التي تدخلت فيها هيئة حقوق الإنسان التابعة للإتحاد البرلماني الدّولي لتضغط على حكوماتها من أجل محاكمة المعتدين على البرلمانيين وخاصّة من تورّط منهم في الاغتيالات أو التغييب أو الاختطاف. البعض من هذه الملفّات يعود إلى أكثر من عشر سنوات وهي ملفّات سوف لن تغلق ما لم تتمّ محاسبة الهاربين من العقاب.
خلال مؤتمرها الأخير الذي انعقد عن بعد بسبب جائحة الكوفيد 19 قرّرت الهيئة تجديد الضغط من أجل البتّ في عديد الملفات القديمة وهي ملفّات تهمّ كلّ من سريلنكا وأندونيسيا وليبيا وأوغندا.
وبهذه المناسبة أكّد رئيس الهيئة حرص الإتحاد البرلماني الدّولي على متابعة هذه الملفّات بقوله “إذا لم يتمّ البحث في هذه الجرائم سوف يفهم مرتكبيها أنهم قادرون على الإفلات من المحاسبة ما يشجّعهم على التمادي في جرائمهم. ولهذا السّبب نحن نرفض غلق هذه الملفّات لأننا سوف نبقى مدينين إلى البرلمانيين الضّحايا وخاصّة منهم من فارق الحياة ما لم يتمّ الكشف عن المجرمين ووضع حدّا لإفلاتهم من العقاب”.
هذا، وقد سجّل الإتحاد البرلماني الدّولي ،خلال السنة الأخيرة، عديد المواقف المتعلّقة ببعض الدّول منها ما يشمل العمل النيابي ومنها مسائل أخرى تشغل الرأي العالمي من أهمّها:
- الرسالة التى وجّهها الإتحاد البرلماني الدّولي إلى رئيس مجلس نوّاب الشعب التونسي والتي يطالبه فيها بضرورة مدّه بالإجراءات التي تمّ اتخاذها لضمان سلامة النائب عبير موسي داخل البرلمان. هذه الرّسالة تمّ توجيهها على إثر القرار الذي اتخذته هيئة حقوق الإنسان للبرلمانيين خلال جلستها عدد 163 المنعقدة في الفترة المتراوحة بين 8 و 13 فيفري 2021.
تقول الهيئة أن هذا القرار تمّ اتخاذه على ضوء شكاية مدعّمة بالوثائق تقدّمت بها جهة مختصّة بإسم نائب (مباشر لعمله) تعرّض إلى شتّى الاعتداءات وتمّ قبولها والتداول فيها طبقا للفصل IV من مجلّة الإجراءات الجاري بها العمل.
وللعلم فإن الهيئة أقرّت خلال هذه الجلسة بأن الأستاذة موسي كانت ضحية للعنف و الهرسلة و الثلب المهين ذو العلاقة بعملها البرلماني وهي اعتداءات ثابتة وقد تكون مُورست عليها لكونها رئيسة حزب معارض أو بسبب جنسها. كما أقرّت الهيئة أيضا بأن رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر تلقّت تهديدات جدّية بالقتل وهو ما جعلها تتمتّع بحماية أمنية لصيقة.
- التصريح شديد اللّهجة الذي أدلت به رئيسة الإتحاد البرلماني الدّولي Gabriela Cuevas Barron حول الهجرة واللاّجئين (في المؤتمر 140 الذي انعقد في قطر) حيث قالت “نحن بوصفنا برلمانيين لنا القدرة على تغيير مجرى البخار renverser la vapeur وعليه، فإننا نؤكّد على ضرورة وضع حدّا لاعتبار الهجرة مشكلا إذ لا بدّ من أن نتعامل معها كرهان فيه مصلحة لجميع الأطراف”.
- وفي نفس المؤتمر الذي انعقد بالدوحة أواخر 2020 ندّدت كلّ من الرئيسة والكاتبة العامّة للإتحاد البرلماني الدّولي بالإجراءات التي اتخذتها السلطات الفنزولّيّة والتي تقضي بحرمان الوفد البرلماني من السفر وطالبت بكلّ شدّة الرئيس Nicolas Madoro رفع هذه القيود وتمكين الوفد من المشاركة في المؤتمر.
- تبعا للانقلاب العسكري الذي جدّ في ميانمار (بورما) خلال هذه السنة حذّر الإتحاد البرلماني الدّولي السلطات العسكرية من مغبّة الاعتداء على البرلمانيين وأعلمهم بأنه بصدد متابعة 39 حالة انتهاك تتعلق بالتهديد والحجز والإيقاف وعدم احترام الحصانة البرلمانية.
وفي هذا الصّدد اصدر الكاتب العام للإتحاد السيد M. Martin Chungong بيانا جاء فيه “إن إجهاض الانتقال الدّيمقراطي في البلاد غير مقبول خاصّة عندما يتعلّق الأمر بقمع الجيش للمظاهرات السّلمية. إن الإتحاد البرلماني الدّولي مستعدّ لحماية السلامة المادّية والقانونية لبرلمان ميانمار Myanmar والدّفاع عن حقوق الإنسان الخاصّة بزملائنا البرلمانيين الذين نساندهم بلا حدود”.
ما هي آليات التنفيذ لدى الإتحاد البرلماني الدّولي؟
إن الإتحاد البرلماني الدّولي ممثّلا في هيئة حقوق الإنسان للبرلمانيين يتمتّع بعديد الصلاحيات من أجل الدّفاع عن البرلمانيين في كلّ الدّول الأعضاء البالغ عددها 179 دولة وتونس واحدة منها.
ومن أهمّ هذه الصلاحيات حقّه في التحكيم وتنظيم جلسات الاستماع وإرسال البعثات للتحقيق والمعاينة على الميدان والمشاركة في جلسات المحاكمة بصفة ملاحظ.
إن الإتحاد البرلماني الدّولي يمثّل الجهة والآلية الدّولية الوحيدة المخوّل لها الدّفاع عن حقوق البرلمانيين المضطهدين ولا يمكن لأيّة جهة أخرى أن تنازعه في هذا الاختصاص.
ومن مهامه أيضا واجب تعبئة كلّ القوى البرلمانية من أجل مناصرة البرلمانيين المهدّدين كما يحقّ له أن يستعمل كلّ وسائل الضغط المتاحة وإرسال الملاحظين من أجل تنفيذ قراراته وقد يصل به الأمر الى تجميد عضوية كلّ من لا يمتثل الى تنفيذ هذه القرارات.
ومن بين وسائل الضغط التي قد يلجأ إليها الإتحاد البرلماني الدّولي لتنفيذ القرارات المنبثقة عنه نذكر كلّ المنظمات المنضوية تحت راية الأمم المتحدة والمنظمات الغير حكومية مثل منظمة العفو الدولية واللّجنة الدولية للصليب الأحمر.
إن سحب الحماية الأمنية اللّصيقة من نائب الشعب عبير موسي من طرف رئيس المجلس وبتواطؤ من القائم بمهام وزير الداخلية بالنيابة يمكن أن يعرّض حياتها للخطر داخل مبنى البرلمان وهو ما يشكّل جريمة يعاقب عليها القانون.
إن الإتحاد البرلماني الدّولي الذي صرّح علنية أنه يتابع عن كثب ملفّ الأستاذة موسي والذي أخذ علما بالاعتداء الذي مارسه ناجي الجمل نائب حركة النهضة على النائب زينب سفاري من الحزب الدستوري الحر يوم 18 مارس 2021 منتبه إلى كلّ الانتهاكات والتجاوزات التي تجري تحت قبّة البرلمان التونسي.
اليوم وفي ظلّ ما تعيشه الأستاذة موسي من تهديدات جدّية اصبح من الضروري ومن الملحّ أن تبادر هذه الأخيرة بتقديم شكاية جديدة لدى مكتب الإتحاد البرلماني الدّولي من أجل استرداد حقوقها وحمايتها.
واليوم أيضا وأكثر من أيّ وقت مضى وما لم تتمّ حلحلة الموضوع داخل مؤسسات الدولة وتدارك الأمر قبل فوات الأوان قد يجازف البرلمان بفقدان عضويته وقد تجازف الحكومة بمصداقيتها لتجد نفسها في عزلة بعد التنديد بها. امّا إذا ما تعرّضت الأستاذة موسي لا قدّر الله الى مكروه فلا شكّ أن الأمور سوف تأخذ منعرجا آخر لا يتمنّاه كلّ تونسيّ حرّ الى بلاده.
* ضابط سامي سابق في البحرية الوطنية.
شارك رأيك