“بتاريخ 26افريل 2013 لقد رزحت بلادنا عقودا طويلة تحت نيْر الاستبداد، حيث عانى فيها الشعب التّونسي مآسي القهر الاستعماري، وظلم نظامين استبداديّيْن تعاقبا على حكم الشّعب بعد الاستقلال.
ورغم المكاسب التي تحققّت في بناء الدّولة الحديثة بشأن حقوق المرأة والتّعليم والصّحة والإدارة والبنية الأساسيّة بفضل إرادة الشّعب في التحرّر والرقيّ بقيادة نخب البلاد، فإنّ النّظام السياسي للدّولة “الوطنيّة” سرعان ما تحوّل إلى نظام استبدادي قائم على الحزب الواحد وعلى سلطة الرّئيس الحاكم مدى الحياة. فتولّد عنه نظام دكتاتوري قهري انتهك الحقوق والحريّات، وتماهى فيه الحزب مع الدّولة، ووُظّف فيه الإعلام للدعاية والتضليل، والجهاز الأمني للقمع والظلم، و إمكانيات الدولة لخدمة الفاسدين وحمايتهم . ولئن قدّمت أجيال متتالية من المناضلين السياسيين والحقوقيين والنقابيين – بمختلف مرجعيّاتهم الفكرية ورؤاهم الإيديولوجية – تضحيات خالدة في سبيل التحرّر من الاستبداد ومن أجل ضمان حياة سياسيّة ديمقراطيّة، فإنّ النظام الدكتاتوري قد تمكّن من بسط هيمنته. فتحكّم في الدولة والمجتمع بالترهيب والقهر، وارتبط فيه الاستبداد السياسي بالفساد الإداري والاقتصادي، حتّى أصبحا متلازمين، ومؤذنين بسقوط النّظام .
وكانت أحداث 17 ديسمبر 2010 الشّرارة التي أوقدت نار ثورة التونسيّين والتونسيّات على نظام الاستبداد الذي انتهك حقوقهم وحريّاتهم، وأذلّهم في وقت كانوا يشاهدون ما تنعم به الأمم المتقدّمة من حقوق وحريات، وما تحقّقه من رفاه اجتماعي، وازدهار اقتصادي، وتقدّم علمي. وفي وقت كان فيه النّظام يُسوّق لصورة برّاقة مزيّفة ” للمعجزة التونسيّة ” غير مطابقة لحقيقة ما يعيشه الشعب التونسي من ظلم وقهر وتهميش وتفاوت جهوي. وما كان لانتفاضة أهلنا في سيدي بوزيد أن تنتشر في كامل البلاد لو لم يعم البلاد الإحساس بالقهر والظلم، والافتقار لأبسط الحقوق والحريات الضّامنة للكرامة الإنسانية. وقد سبقت الثورة بسنتين انتفاضة أهلنا بالحوض المنجمي، وببعض الأشهر انتفاضة أهلنا ببن قردان .
وقد كان تحدّي أبناء الشعب الشّجعان لآلة القمع، وتضحيتهم بأنفسهم، وعزمهم إنهاء الاستكانة، وتحرّرهم من الخوف، كلّها دوافعَ للتضامن، وشحذا للهمم، ونضالا امتدّ إلى كامل البلاد، فأطاح بالنظام، وانتهى بهروب الطاغية.
لقد مثّل يوم 14 جانفي 2011 بداية تاريخ جديد للشعب التّونسي تحرّر فيه من الظّلم والقهر والاستبداد، و فرض– في مسار ثوري شاق – على الحكومتين المتعاقبتين في الفترة الانتقالية الأولى حلّ الحزب الذي حكم البلاد وقهر العباد، وإقرار قانون العفو التشريعي العام. فتحررت الكلمة، وضُمِن حق التنظّم الحزبي والجمعيّاتي، وانطلق الجميع في بناء مشهد سياسي جديد قائم على التنافس والتجاذب في اتّجاه التأسيس لشرعية سياسية تأسيسيّة أصليّة منها تنبثق جميع الهياكل والمؤسّسات الشرعية للدّولة.
وقد كان يوم 23 أكتوبر 2011 لحظة فارقة في التاريخ السّياسي المعاصر لتونس ، تاريخ أوّل انتخابات حرة وشفافة، اختار فيها الشّعب ممثّليه في المجلس الوطني التأسيسيّ للاضطلاع بمهمّة كتابة دستور جديد، وانتخاب حكومة شرعية، ورئيس للجمهورية لفترة مؤقّتة ثانية. إلاّ أنّ الاعتقاد بأنّ ما أفرزته الانتخابات من هياكل ومؤسّسات شرعية كفيل باستكمال مسار الثّورة، وبإنهاء مرحلة الاستبداد، هو من قبيل الوهم بأنّ هروب الطاغية كفيل باقتلاع جذور نظام قائم على الاستبداد والفساد. إنّ التّحدي الرّئيسي ــ اليوم ــ يتمثّل في وضع الآليات والضمانات اللاّزمة لعدم عودة الاستبداد والفساد، والقطع مع سياسة التّهميش والتمييز بين المواطنين، وبين الجهات، لا سيما وأنّ وضع البلاد الأمني والاقتصادي من جهة، وطبيعة الصّراع في المشهد السياسي والاجتماعي من جهة أخرى، لا يبعدان، بأي حال، شبح الانتكاس.
وإذا سلّمنا بأنّ ضعف الحكومة، وتردّدها كان فرصة لبعض الأفراد والجماعات حتّى يعيدوا تنظيم شبكات الفساد، ويخرقوا القوانين، وينتهكوا هيبة مؤسسات الدولة، ويجهضوا أهداف الثورة. فلا بدّ من الإقرار بأنّ هذا الوهن قد أدّى إلى تعقيد الوضع الأمني، واحتدام الصّراع السياسي، وتأزم الوضع الاقتصادي والاجتماعي. ورغم وجود أشخاص من أصحاب العزائم الصادقة، في مختلف شرائح المجتمع والمؤسسات والأحزاب، سواء تلك التي في السلطة أو في المعارضة، فإنّ منظومة الفساد، و إعادة إنتاج النظام السّابق أصبحت الآن تعمل بنسق حثيث لاسترجاع مكانتها بنفس الوجوه القديمة، أو بجدد تراءى لهم أنّ الوصول إلى الحكم، أو البقاء فيه يقتضي القبول بالأساليب التقليدية في إدارة الشأن العام، بل ودعمها في بعض الحالات لكسب الأنصار. و في خضم هذا الواقع السياسي الجديد الذي يعيشه بلدنا اضطلعت بعض الأحزاب السياسية بدورها النقدي.
إلاّ أنّ بعضها ــ وفي إطار حرب المواقع و الصراع الإيديولوجي ــ قد زاد الوضع تأزّما بتوظيف المطالب الاجتماعية – المشروعة والواقعية- في التحريض على من يحكم دون أن توجّه جهدها إلى تقديم البدائل، والتركيز على مواطن الخلل المتمثلة في تردّد الحكومة، وعدم فرضها لسلطة القانون على الجميع، وعدم محاربتها للبيروقراطية والفساد، وسكوتها عن أخطاء بعض المسؤولين، وضعف الشفافيّة، وتوظيف أساليب النظام السابق . أمّا بعض الأحزاب الأخرى فقد غرقت في مشاكلها الدّاخلية لغياب التسيير الديمقراطي، واستفحال النزاعات الشخصيّة، وعدم استيعابها لمفهوم المؤسسة، في حين فقد غيرها استقلاليته لارتباطه بمموّلين أصبحوا ضمانة استمراره.
وعموما، فإنّ المشهد السياسي أصبح قائما على الاختلاف الإيديولوجي الذي عوض أن يكون عنصر إثراء للفكر السياسي، أصبح مكرّسا للصراع والتطاحن من أجل السلطة، و مفجّرا للحقد والكراهية، ومؤذنا بتفاقم ظاهرة العنف المعنوي والمادي على أساس الاستقطاب الثنائي، أو التّكفير، أو التّخوين. إنّ مشروع تأسيسنا لحزب جديد ــ اليوم ــ يهدف إلى المساهمة في إيجاد البديل للتّونسيين الذين ملّوا الخطاب السياسي السائد لدى أحزاب السّلطة وأحزاب المعارضة، ويريدون لبلدهم أن يقلع نحو آفاق الرقي والتقدم على جميع المستويات.
ونحن نعتزم أن يُبعث مشروعنا ويُدار بشكل عصري ديمقراطي شفاف، يضمّ عند تأسيسه، وفي مستوى كل المسؤوليات المركزية والجهوية والمحلية، كفاءات ومناضلين يحركهم حب الوطن، مقتنعين بحاجته إليهم في هذه المرحلة التأسيسيّة الحرجة، مستعدين للتضحية وتحمّل المسؤولية في سبيله، وقادرين على تصوّر البدائل وتقديمها والإقناع بها.
لا يعادون من يختلف معهم في الرأي، ولكنهم مقتنعون بالأفكار والآراء الواردة في هذا البيان التأسيسي، وفي وثيقة الهوية والخط السياسي، حيث يتعاهدون على العمل في حدودها واثقين في المستقبل، وفي قدرة الشعب التونسي على النهوض، متحلين بالإرادة اللازمة لتجاوز كل المصاعب التي قد تعترض سبيلهم.”
شارك رأيك