في البداية لا بد من تقديم الأستاذ خليل قويعة على أنه فنان تشكيلي وكاتب أكاديمي يحفر عميقا في سراديب اللغة وطقوس الألوان، فتجربته هي نتاج تراكمات معرفية وأكاديمية وجمالية. هو أستاذ الجماليات ونظريات الفن بالمعهد العالي للفنون والحرف في جامعة صفاقس. له عديد الإصدارات منها: “تشكيل الرؤية: تأملات في تجارب تشكيلية من تونس”، “الخط العربي بين العبارة التشكيلية والمنظومات التواصلية”، “بنية الذائقة وسلطة النموذج في ظاهرة الاقتناء الفني العربي”.
بقلم البشير عبيد
إن التفاعل بين ما هو فني وما هو أكاديمي شكل ملامح التجربة المتفردة لخليل قويعة فاشتغل على التقاطع بين الفني والمعرفي و القيمي في تجربته، وكذلك قضية الفنان ومدى تأثيره في محيطه الاجتماعي. كما له مساهمات في مجال الإعلام الثقافي بالإضافة إلى كونه باحث وفنان مما فسح له المجال ليكون منظرا وممارسا للفن في الآن نفسه فيحفر في عمق الفن ليخرج منه ما ندر وما يفاجئ المتقبل لأنه يبحث في الفن وعلاقته بالفكر والفنون الأخرى بالإضافة إلى اشتغاله على المقاربة العضوية بين الصورة واللغة التي تمثل بأشكالها المختلفة الهاجس الإنساني بشتى مفارقاته واختلافاته.
ونقد مسألة التعامل السطحي مع الفن وغياب سوق حقيقية لترويج المنتوجات الفنية. وهذه المسيرة الحافلة بالانجازات والبحث المستمر لا بد أن تتوج باعتراف جمعي ومؤسساتي لما فيها من إضافة في الحقلين الفني والفكري ففاز كتابه ‘‘بنية الذائقة وسلطة النموذج في ظاهرة الاقتناء الفني العربي‘‘ سنة 2003 بجائزة الشارقة للنقد الفني، كما توج كتابه الذي صدر سنة 2020 ‘‘مسار التحديث في الفنون التشكيلية من الأرسومة إلى اللوحة‘‘ بجائزة الشيخ زايد بفرع الفنون والدراسات النقدية وهي من أهم الجوائز العربية التي تعنى بالإبداع والفكر.
بعض الملامح من كتاب ‘‘مسار التحديث في الفنون التشكيلية ‘‘
هو بحث أكاديمي يحمل رؤى نقدية وسردا لتجليات تجربة الفن التشكيلي في تونس منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى حدود القرن العشرين ومراحل تطور هذه التجربة من الأرسومة الزجاجية إلى اللوحة التي أصبحت سمة من سمات عملية التشكيل البصري الملوّن.
هذه التجارب التي وقع فيها توظيف كل ما هو تراثي وأسطوري. فاللوحة الحديثة هي جملة تراكمات تجمع بين الموروث والإبداعي الفني والحرفي كذلك، لأن النحت بالألوان لا يكون بالاستعمال المحض للألوان بل هو مزيج بين التخييل وتوظيف الموروث الثقافي الزاخر والمتنوع وبذلك تتشكل هوية اللوحة التي تربط بين الأصالة والحداثة. وسلط الناقد والباحث خليل قويعة في كتابه على عديد التجارب في تاريخ الفن التشكيلي التونسي نذكر على سبيل المثال الحركة الريادية في بداية القرن العشرين والتي مثلها علي بن سالم و عمار فرحات و حاتم المكي و يحيى التركي و غيرهم والتي كانت تستلهم من البيئة التونسية المعيشة وتأثر هذا الجيل كذلك بالتجارب الغربية مثل التكعيبية والسوريالية وتأثير المعمرين الأوروبيين الذين تركوا بصمتهم في الثقافة التونسية.
كما أن هذا البحث اهتم بمراحل التأسيس الأولى انطلاقا من تأسيس مدرسة الفنون الجميلة بتونس سنة 1926 التي ساهمت في تكوين عديد الأجيال على مر السنين مرورا بفترة الستينات التي ‘‘كانت لحظة حاسمة في تبلور خطاب الهوية والحداثة… والتي منحت مفهوم الأصالة مفهوما جدليا و زمنيا و سعت على تخليصه من تداولاته الاستهلاكية والسطحية‘‘.
هذا الحراك في الستينات أثمر الاتحاد الوطني للفنون التشكيلية الذي تأسس سنة 1968 على يد جملة من المثقفين مثل الطاهر قيقة وعلي بالآغا والزبير التركي والهادي التركي والصادق قمش وعلي عيسى، كما برزت تجارب أخرى مثل نجيب بالخوجة وتجربة نجا المهداوي.
ويقول خليل قويعة :‘‘في مثل هذه التجارب التحديثية يتخلى التراث عن كونه قوة جاذبة ليتحول قوة دافعة، داخل معركة تحرير الشكل الفني من مخلفاته الحكائية والتزويقية في الذائقة السائدة‘‘. وعلاوة على ذلك فان الكتاب تناول عديد التجارب الأخرى بالتحليل والنقد مثل تجارب زبير التركي و الحبيب شبيل وعلي الناصف الطرابلسي.
هذا التناول النقدي للمنجز التشكيلي قدم لمحة ضافية عن تجربة الفن التشكيلي بتونس مع رصد أهم المراحل التي مر بها والمدارس التي تأثر بها ويحمل مسيرة أجيال برمتها نحتت أسماءها بالريشة على ألواح التاريخ وبذلك فهو مرجع ثري ومهم في المدونة الفنية التونسية والعربية لا بد للطالب في هذا المجال والباحث في مضمار التجربة الفنية التونسية أن يمر بهذا العمل الأكاديمي القيم .
شارك رأيك