تشهد الساحة السياسية التونسية هذه الأيام تحركا مكثفا لإعادة تشكيل المشهد السياسي، بتدخل خارجي مباشر على مستويات عدة، فكرية وسياسية ودعائية ولوجستية وتنظيمية ومالية، وتهدف هذه التحركات إلى إنقاذ تنظيم الإخوان المسلمين بتونس، بٱعتباره آخر المعاقل بعد سقوط مركزيته في مصر وفرعه “القوي” في السودان، وانحساره الكبير في المغرب نتيجة المراجعات العميقة التي قام بها أغلب قادته التاريخيين، وتهميشه في الجزائر بعد استخلاص العبرة من عشرية الجمر والدماء، وسحقه وتدمير هياكله في سوريا ، وتخلي تركيا الأردوغانية عنه وغلق إمارة قطر منابع تمويلها له تحت ضغوطات إقليمية ودولية شديدة ومكثفة.
بقلم مصطفى عطية
البحث عن سبيل لإنقاذ آخر معاقل الإخوان في تونس
تحركت القيادة العالمية للتنظيم لمواجهة هذه التحولات الكبرى التي تهدد وجوده وتضع رموزه في مواجهة مصير غامض، وأفضت تحركاتها إلى المبادرة بإنقاذ فرع الإخوان بتونس (حركة النهضة) بٱعتباره الفرع الوحيد الذي مازال “متماسكا” نسبيا، رغم ما اعتراه من علامات الوهن والتفكك والإرتباك وفقدانه لأكثر من نصف أتباعه وأنصاره خلال السنوات الخمس الأخيرة، بعد فشل “التوافق الحمائي” مع حزب نداء التونسي المضمحل بقيادة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، الذي خان ناخبيه من أجل ضمان بقاء إبنه على رأس الحزب وتأمين منافع عائلته والمحيطين به.
كان لا بد من استنباط طريقة لإنقاذ آخر معاقل الإخوان قبل سقوطه وذلك بإحياء بعض التجارب التونسية السابقة ذات الخصوصيات المتفردة في العلاقة بين الدساترة والإسلاميين عبر قرن من الزمان، والعمل على إيجاد إطار سياسي لتوحيدهم على غرار ما حصل سنة 1920 عند تأسيس الحزب الحر الدستوري التونسي بقيادة الشيخ عبد العزيز الثعالبي، والذي إنشق عنه الزعيم الحبيب بورقيبة في الثاني من شهر مارس سنة 1934 ليبعث الحزب الحر الدستوري الجديد الذي قاد الحركة الوطنية وتولى بناء الدولة المدنية الحديثة.
محاولة إيجاد “إرث مشترك” بين الدساترة والإسلاميين
وبعد قراءة موضوعية للوقائع والمستجدات والمحاولات خلال السنوات الأخيرة، تبين لقيادات التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وحماتهم القطريين، أن العودة إلى “المرجعية الثعالبية” لن تكون مجدية لأسباب عديدة، منها بالخصوص إستحواذ الحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسي “العدو الأول لللإخوان” على هذه “المرجعية” وتوظيفه لها من منظور دستوري نضالي يقطع مع الإسلاميين وإرثهم، ويعتبر الثعالبي ورفاقه من الشيوخ سليلي المدرسة الزيتونية التونسية الأصيلة والمعتدلة، التي لا علاقة لها بتطرف الجماعات الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، خاصة وأن هذه الأخيرة ولدت تحت حماية الإنتداب البريطاني لمصر وتحديدا بعد الحزب الحر الدستوري التونسي بثماني سنوات (1928). ونتيجة لهذا الإستنتاج تقرر البحث في تاريخ تونس المعاصر عن “عقدة” أخرى حدث فيها تقارب بين الدساترة والإسلاميين، فكان العثور على الفترة الممتدة من سنة 1979 إلى سنة 1986، وهي الفترة التي ترأس فيها محمد مزالي مجلس الوزراء بصلاحيات واسعة بسبب مرض الرئيس الحبيب بورقيبة.
حاول محمد مزالي منذ توليه منصب الوزير الأول بالنيابة إثر مرض الهادي نويرة التقرب من الإسلاميين لضرب التيارات اليسارية والحداثية المتنامية في تلك الفترة وخاصة في الجامعة التونسية، وقد وجد في سعيه ذاك مساندة فعلية قوية من مدير الحزب الإشتراكي الدستوري الحاكم والرجل “القوي جدا” محمد الصياح، لكن محمد مزالي لم يكتف بمجرد الإستعانة بالإسلاميين لضرب اليساريين والحداثيين، بل حرص على أن يعقد معهم تحالفا تشاركيا فكريا وسياسيا وهو ما جعل محمد الصياح يحول مناصرته له إلى عداوة معلنة.
بدأ محمد مزالي بترضية الإسلاميين بأن منحهم هامشا كبيرا من التحرك الدعوي والسياسي حتى أصبح قادتهم وعلى رأسهم راشد الغنوشي يتجولون في كامل مناطق البلاد ويلقون محاضراتهم الدينية المصبوغة بالفكر السياسي الإخواني في المعاهد الثانوية والكليات ودور الشعب والثقافة، وغدت منشوراتهم تطبع في مطابع دار العمل التابعة للحزب الإشتراكي الدستوري، أما أكبر خدمة قدمها محمد مزالي للإسلاميين التونسيين فهي تعريب مناهج التعليم وتدنيسها بالأفكار المتطرفة وفتح البلاد أمام دعاة التطرف لإلقاء محاضراتهم المسمومة ونشر كتبهم المشبوهة، والإنضمام إلى المجالس العلمية في العديد من المؤسسات الأكاديمية ومنها بالخصوص “بيت الحكمة”، قبل أن يتم التفطن لهذا الخطر الداهم ويتقرر الإستغناء عن محمد مزالي ثم عن المنظومة الحاكمة بأكملها بعد بضعة أشهر وتحديدا في السابع من شهر نوفمبر 1987.
التيار الجديد وخماسية التحالف “الدستوري – الإخواني” في عهد مزالي
وجد منظرو التنظيم العالمي للإخوان المسلمين في “خماسية التحالف” بين الدساترة بقيادة محمد مزالي والإسلاميين بزعامة راشد الغنوشي إرثا هاما يمكن الإستئناس به لإنقاذ آخر معقل من معاقل الإخوان أي حركة النهضة التونسية، وذلك ببعث تيار سياسي يحيي هذا الإرث ويعيد ذاك “التحالف” إلى الوجود بشكل يحمي حركة النهضة من السقوط، ويكون لها رافدا منقذا من جهة ويضرب الحرگة الدستورية بقيادة عبير موسي في الصميم وذلك بتفتيتها وبث الصراعات بداخلها، من جهة أخرى، وقد تقرر أن يقود هذا التيار ما يسمى ب :”الدساترة الإخوان”، أي الذين عملوا إلى جانب محمد مزالي وتبنوا أفكاره وساهموا في توطيد العلاقة بين الإسلاميين والدساترة، ثم وجدوا ملجأ مريحا في فرنسا وإمارة قطر بعد سقوط محمد مزالي ثم تولي زين العابدين بن علي زمام الحكم في البلاد إثر إزاحة الزعيم الحبيب بورقيبة. هؤلاء سيتولون قيادة هذا التيار بمعية “المتحولين” من الدساترة الذين إنضموا إلى حركة النهضة علنا (كمحمد الغرياني و ماهر مذيوب وعبد الجليل المسعودي و غيرهم) أو ساندوها سرا أو أيضا الذين بقوا في الحياد واعتبروا حركة النهضة مكونا أساسيا وضروريا في المشهد السياسي بالبلاد لا يمكن التخلي عنه. وستكون إمارة قطر كالعادة هي الحاضنة لهذا التيار، الداعمة والممولة له.
صحفي و كاتب.
شارك رأيك