تولّى رئيس الدّيوان السيد يوسف بن ابراهيم بعد ظهر اليوم الخميس 03 جوان 2021 ،بضاحية قمّرت، تأبين المفكّر والمؤرّخ الكبير هشام جعيّط الذي وافاه الأجل المحتوم يوم الثّلاثاء غرّة جوان 2021، وكان ذلك بحضور عدد من أفراد عائلة الفقيد وثلة من الفاعلين في الحقل الأكاديمي والأدبي والفكري.
وفيما يلي نصّ كلمة التأبين :
بسم الله الرحمن الرحيم الله أكبر …. الله أكبر…. الله أكبر،
إنا لله وإنا إليه راجعون، نَقِفُ اليوم بقُلوبٍ خَاشِعَة ونُفُوسٍ رَاضِيَة بحكم الله وقدَرِه، لنُوَدِّعَ ابن تونس البَار المُؤَرّخ الفَذِّ والمُثَقَّفِ الكبير الدكتور هشام جعيّط.
نفتقد رجلا من رجالات تونس التي بها نفتخر ونعتز ، شرّفنا أستاذا زائِرا ومحاضرا وشرفيّا في جامعاتٍ عربيةٍ ودولية متعددة ، فكان من مصادر التعريف ببلادنا الولاّدة ، مَنْبَتِ العلماء والأساتذة المُضِيفِينَ للمعرفة الإنسانية عموما والفكر العربي الإسلامي بصفة خاصة …. والمُحَرِّكِين لمياهِ الفكرِ الرَّاكِدَةِ أحيانا ، هو من خِيرة ما أَنْجَبَتْ بِلادُنا من باحثين وعلماء في تاريخنا المعاصر، فقيدنا الدكتور هشام جعيط الذي تَمَيَّزَ وامْتاز في منابرِ الجامعات والمنتديات في تونس ومختلف أنحاء العالم، أستاذا مُرافِقًا ومُؤَطِّرًا ومُوَجِّهًا لِنُخْبَةٍ من الباحثين الذين تَرَكَ دون شَكٍّ أَثَرًا بَيِّنًا في أعمالهم وأُطروحاتهم الجامعية وأفكارهم. تَشْهَدُ للمرحوم هشام جعيّط مُؤَلَّفاتُهُ العديدة وأَعْمالُهُ المُخْتَلِفَة عن قُدراتٍ فكريةٍ رَفِيعة ، وخِصَالٍ إنسانيةٍ عَاِليةٍ ونَبِيلة، تَحَلَّى بها طِوال مَسِيرَتِهِ الحَافِلَة بِالعَطاء الفِكْرِي السَّخِيِّ.
لَمْ يَكُنْ الدكتور هشام جعيّط مُؤَرِّخًا فَحَسْب، وهذه مِهْنَتُه التي شُغِفَ بها وأبْدعَ فيها، حتى نَالَ مكانةً علميةً عالية ، قلَّ نَظِيرُهَا، بل كان مُثقَّفًا بالمَعْنى الرَّحْبِ للكلمة، فألّف في قضايا فكرية وهواجِسَ معرفِيّة ومباحِثَ فلسفية مُتعددة، شَغَلَتْ النُخَبَ الفِكرية والسياسية منذ ستينيّات القرن الماضي ، حيث تعُودُ أُولَى كِتَابَاتِه إلى تلك الفترة الثريّة بالجدل الفكريّ في المشرقِ والمغربِ العربيين. وكان في مَسِيرَتِهِ رافِعًا لِلِوَاءِ حرّيةِ التعبير والتّفكير والرّأي العميق. وتَوزَّعَت أبْحاثُهُ العديدة بين تاريخ الإسلام المُبكّر ، وتاريخ إفريقيَّةَ وقضايا الحوار بين الإسلامِ والغربِ ، والثقافة العربية والحداثة وعلوم الأديان المُقَارَنَة. لقد جَسَّدَ الفقيدُ اهتِمَامَاتَ جِيلِهِ، وهْوَ الذي أَدْرَكَ الاستِعْمارَ وعَاشَ بِنَاءَ الدَّوْلَة الوطنية وأَدْرَكَ الثَّوْرَةَ، فكان حَاضِرًا من خلال أبحاثِهِ و دراساتِهِ في كل المُنْعَطَفَاِت التي عَرَفَتْهَا بلادنا.. والأُمَّةُ العربية عموما، كاتبا بقلمٍ حُرٍّ وفِكْرٍ نقديٍّ ثاقبٍ، فكَرَّمَهُ وَطَنُهُ حِينَ تَمَّتْ تَسْمِيَتُهُ رئيسًا للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة). كان الفقيدُ مَتِينَ التكوين ؛ نَهَلَ من الثّقافةِ العربية أُمّهاتِ كُتُبِها ومصادِرِها، مُطَّلِعًا بدقَّةٍ على آخرِ إصداراتِ الثّقافة الغربية، مُنْفَتِحَ الفِكْرِ، عَقْلاَنِيَّ المُقَارَبَـــــــــــــةِ.
وبِذلك تَحَقَّقَ للمرحوم هشام جعيّط مَكَانٌ ومَكَانَةٌ في تَقْدير الدّارسين والباحثين على تَنَوُّعِ وِجْهَاتِ نَظَرِهِم، فَقَلَّ أَنْ تَجِدَ بَين المُعاصِرينَ باحِثًا وعالِمًا ، حقَّق هذا الإجْمَاعَ حَوْلَهُ بين النُّخَبِ العلمية والبحثيّة في تونس وخارِجَها. كان المرحوم هشام جعيّط أحدَ أعْمِدَةِ قسْم التاريخ في الجامعة التونسية، وكان دَرْسُهُ مَسَاحَةً تَجْتَمِعُ إليها بَقِيَّةُ أقسَامِ الجامعة التونسية في تَخَصُّصاتِ العلوم الإنسانية والاجتماعية المُخْتلفة. وبِفضْل وَجَاهَةِ مُقَارَباتِهِ في دَرْسِ التاريخ ، كانت كِتاباتُهُ مِفْتاحًا للدارسين لا في التاريخ فحَسْب، بل وفي غيره من التَّخَصُّصَاتِ التي اسْتَفَادَتْ من كتاباتِهِ ومُقَارَبَاتِهِ. فتَحَقَّقَ لهشام جعيط ما تَحَقَّقَ لغيره من كبارِ عُلماءِ تونس من أَثَرٍ عِلْمِيٍّ. ولن نَنْسى المَوَاقِفَ الجَرِيئَةَ للمرحوم هشام جعيط ، وانْحِيَازَهُ للحريّات والديمقراطية ومُغَادَرَتَهُ الجامعة وهو في أوْجِ العطاء ، غيرَ أنّه لم يَرْكُنْ إلى السُّكُونِ، بل تَفَرَّغَ للْعَطَاءِ الفكريّ والعلميّ، وتَشْهدُ له المؤلفات العديدة التي أنْجَزَهَا بعْد مُغَادرته الجَامِعَةَ بالشَّغَفِ المَعْرِفيِّ الذِّي لاَزَمَهُ حتى وفاتِهِ، و تَلَقَّى القُرَّاءُ أَعْمَالَهُ بحفاوةٍ بَالِغَة، وأُعِدَّتْ حَوْلَها أُطْرُوحاتٌ عديدة و نُشِرت فيها بحوثٌ مختلفة ، وبذلك حَازَ الرَّاحِلُ تَقْدِيرَ الجميع و كَرَّمَتْهُ مؤسساتٌ أكاديميةٌ دولية عديدة. كانت من أُولَى مُسَاهماتِ فَقِيدِنا، كتاب “الحلم بتونس” الصادر بالفرنسية سنة 1971″ Rêver de la Tunisie “، ولاَ شكَّ أنَّ البعض من أحلامِهِ تَحَقَّقَ ، وظَلَّتْ أَحْلامٌ أُخرى أَمَانَةً في أعناقِنا. وسَيكُونُ للمثقفين الدَّوْرُ الأكبر في استِكْمال تَشيِيدِ هذا الصَّرْحِ ، لِتَظلَّ بِلادُنا حرّةً و مُنْفَتِحَةً وشغوفةً بالمعرفةِ ، رِهَانُهَا الأول في ذلك : المعرفة و العقل و الثقافة و العلم . رحِمك الله أُسْتاذَنَا الكريم رحمةً واسعة … سَتظَلُّ سِيرَتُكَ مثالا لِلْعالِمِ الثَّبْتِ والمُثَقَّفِ الحُرّ. ولا شكّ أنَّ أجْيالَ الباحثين سَيَذْكُرون في سِيرَتِكَ دِقَّةَ الباحِثِ وإخْلاَصَ العالِم وإلْهَام القُدْوَةِ.
ونقولُ طُوبَى لِمَنْ تَرَكَ أَثَرَهُ وتَرَكَ ثِمارا من المَعْرِفةِ والعِلم، سَتُؤْتِي أُكْلَهَا دائما.
تَغَمَّدَ الله فقيدنا بِرحمته الواسعة وإنا لله وإنا إليه راجعون.
شارك رأيك