يجب ألا ننسى أنه كان هناك في تونس السبعينات والثمانينات شبابا لم يساوم و لم يتردد ولم يتهاون في خوض معارك وتقديم تضحيات حالما بالعدل والحرية والكرامة الوطنية، شبابا لا يشبه في شيء الكثيرين من الأرهاط الذين احتلوا الساحة الإعلامية اليوم و”عملوا الريحة”…
بقلم عبد اللطيف معطر
حضرت مساء يوم السبت 29 ماي 2021 أمسية شعرية موسيقية في المركب الثقافي محمد الجموسي نظمها الفرع الجامعي للثقافة بصفاقس في إطار الدورة الثانية لتظاهرة “سيدة الأرض” استمع فيها عدد هام من الحاضرين إلى أغاني مجموعة البحث الموسيقي بقيادة الفنان نبراس شمام وإلى قصائد ألقاها الشاعران عبد الجبار العش و علي العرايبي.
لم تكن المرة الأولى التي استمع فيها لتلك الأغاني وتلك القصائد و أتفاعل معها بل الأمر يعود إلى زمن بعيد. لكن لا أدري كيف لم أقدر على كبح جماح مشاعر جياشة وخواطر موجعة اجتاحتني أثناء تلك الأمسية. مشاعر وخواطر متشابكة ومتشعّبة أربكتني وجعلتني في حالة من الضعف النفسي شرّع لانهمار الدمع من عيني. اختلط فيها الغبن بالحنين لحلم قديم تحوّل إلى أشلاء، والحسرة على أجواء نضال بطولي أصبح اليوم أطلالا بالنقمة على ظلم الزمن والمجتمع الناكرين لقيمة ما بذله جيل كامل من تضحيات وما حمله من قيم ومبادئ في سبيل وطن أحبوه وحلموا بتغييره إلى جنة لا ظلم فيه ولا فقر ولا تخلف.
عجز جيل كامل وبقاؤه على هامش تاريخ بلاده
وفي هذا الركام من المشاعر والخواطر تسلل شعور آخر بالسخط على عجز هذا الجيل وبقائه على هامش تاريخ بلاده وهو يراه يسقط في بئر بلا قاع ويعبث به أكثر الغلاة رجعية وانتهازية. حاولت استنهاض الشعور بالأمل في عودة الروح لهذا الجيل وفي تصحيح مسار تاريخ تونس المعوج فبدا لي الأمل واهنا مثل ضياء شمعة ينفخ فيها الريح.
أغنية الشيخ إمام “شيد قصورك على المزارع ” التي افتتحت بها مجموعة البحث الموسيقي الأمسية ليست أغنية عادية بالنسبة لي. كنت سمعتها لأول مرة في منتصف السبعينات على شريط كاسيت وحفظتها ورددتها وسط جموع الطلبة في كلية 9 أفريلفي “الكامبيس” ونحن نستعد لخوض معارك ضد البوب وبيادق النظام الذي كنا نصفه بالرجعي والكمبرادوري والعميل. لم نكن نخوض معارك وقتها ضد رجعي آخر غير الحزب الحاكم لأنه بكل بساطة لم يظهر بعدُ من هو أتعس منه وأكثر رجعية إذ لا وجود يُذكر لتيار إسلامي عند التحاقي بالجامعة سنة 1975. تلك الأغنية بالذات لعبت دورا كبيرا في شحذ عزيمة جماهير الطلبة في تلك الفترة على مواصلة النضال ولكم أن تتصوروا كيف تلهج القلوب وتعلو الأصوات مع ترديد: “عمال وفلاحين وطلبة دقت ساعتنا وابتدينا…نسلك طريق ما لهش راجع، والنصر قرب من عنينا”
وقع هذه الأغنية على نفسي هذه المرة كان مغايرا ومؤلما جدا. لقد “دقت ساعتنا وابتدأنا ورأينا النصر يقرب من أعيننا” قبل ما يناهز نصف قرن فأين هو ما بدأناه في شبابنا وقد أصبحنا الآن شيوخا وأين هو النصر الذي رأيناه بأمّ أعين خيالنا الثوري الجامح؟ رأيت اليوم الجمهور الحاضر يردد مع المجموعة كلمات الأغنية وجمع من الشباب يرفعون شعارات حماسية وسط القاعة فسألت نفسي: هل هي لحظات مسروقة من زمن مضى أم هي تخميرة لا تزال صالحة للبعض يستلذ بها كتعويض عن نقص مزمن؟
عبد الجبار العش لم يكتف بإلقاء ما اختاره من قصائده، لقد نجح في إحياء الذاكرة ورحلبالحاضرين إلى سنوات الجمر في بداية الثمانينات حين كان في ريعان الشباب شاهرا سلاح الكلمة الشعرية الملتزمة مع غيره من الشعراء والفرق الموسيقية في بداياتها وملتحما بنضالات الاتحاد العام لطلبة تونس والاتحاد العام التونسي للشغل.
ذكرني بأجواء الحماس وتحدي جحافل البوب المحاصر للكلية أو لدار الاتحاد أو الملاحق لجموع المتظاهرين في جانفي 78 وفي سبتمبر 82 إبان غزو لبنان وفي جانفي 84 إبان انتفاضة الخبز.
ذكرني بغمار تجربة جريدة الشعب السرية في خريف 78 وبالكتب والمناشير التي كنا نحملها تحت المعاطف ونتبادلها سرا، بوهج النقاشات في نادي السينما للشباب حتى سنة 86 وما كان يعرضه من أفلام نضالية، بجرأة “النقابيين المتطرفين” في وجه البيروقراطية النقابية بزعامة الحبيب عاشور (“أسد البطحاء” وما أدراك) لأنها لازمت الصمت عند انطلاق انتفاضة الخبز وعقدت اتفاقية مشينة مع حكومة مزالي على حساب العمال قبل أن تدور عليها الدوائر.
ذكرني بعديد الأسماء التي غيبها الموت أو الاستشهاد بعد أن فسخّر أصحابها حيواتهم كلها في سبيل ثورة آمنوا بها وقبل أن يروا بارقة أمل لتحقيق حلمهم، واستحضرت وجوه وملامح بعض من عرفته منهم في صفاقس (من بينهم الشهداء عمر قطاط وبليغ اللجمي ومحمد هماني والرفيقين عبد الرحمان عزيز وصالح الوكيل وغيرهم كثيرون).
ذكرني عبد الجبار العش كل ذلك وأنا أراه يلقي قصيدته المشهورة “لن يمروا…” وتذكرته أيضا وهو يلقيها لأول مرة في دار الاتحاد الجهوي بصفاقس يوم تعرضها لهجوم ميليشيات الحزب الحاكم في أكتوبر 1984. تذكرت وجهه وحجمه وعنفوانه وقتها وتذكرت أثر قصيدته على نفسي وعلى عموم النقابيين والمناضلين اليساريين. زودنا في ذلك الوقت بيقين لا يرقى له الشك بأنهم “لن يمروا” وأننا “سننحت من الكبرياء النهار… نخلة شامخة كالمنار… عيون عاشقة تضيء الظلام كشعلة نار”.
فماذا عساي أن أقول اليوم بعد حوالي أربعين سنة وأنا أمام عبد الجبار العش الذي لم يرحمه الزمن حتى في صحته وأفقده نصيبا من حاسة السمع، وأنا أبحث عن النخلة التي كانت شامخة وعن العيون العاشقة التي كانت شعلة نار؟
اليسار أصبح نخلة عجفاء لا تنتج تمرا
أليس من الغبن أن تصبح اليوم تلك النخلة عجفاء لا تنتج تمرا وأن تخمد نار تلك العيون العاشقة وأن تصم الآذان عن صيحات الرفض والتمرد التي طالما رفعها جيل كامل؟ هل أن الصمم أصاب عامة الناس فلم يسمعوا ولم يتفطنوا إلى أن هناك من بينهم جيل سخّر شبابه ليصنع لهم ربيعا حقيقيا وحلم بثورة لو تحققت لما سقطت بلادهم بين براثن تجار الدين ومافيات الفساد؟ أم أن صوت ذلك الجيل كان مبحوحا أو نشازا خارج السرب؟ أسئلة محيرة لن تجد جوابا في عتمة العواطف المتشنجة بعيدا عن نور عقل متيقظ.
قد تنزاح الغمة يوما وتستعيد تونس عافيتها ويدرك الناس ولو بعد لأي من يريد بهم خيرا ومن ضحك على ذقونهم. قد تعود يوما الروح في القوى التقدمية واليسارية وتتجاوز أخطاءها وتشفى من عللها لتدخل أخيرا التاريخ من الباب الواسع.
لكن في انتظار ذلك ألا يجب على الأقل أن يعتبر بالتاريخ ويتفطن الناس أنه كان هناك في تونس السبعينات والثمانينات شبابا لم يساوم و لم يتردد ولم يتهاون في خوض معارك وتقديم تضحيات حالما بالعدل والحرية والكرامة الوطنية، شبابا لا يشبه في شيء الكثيرين من الأرهاط الذين احتلوا الساحة الإعلامية اليوم و”عملوا الريحة”؟
شارك رأيك