أعتقد أنّ أكثر ما يُميّز هذه السنوات العجاف في تونس هو صراع النفوذ والمصالح و تزايد مجالس الجدل الصاخبة، وأبرز الأخطاء فيها التحوّل بالحوار من “الاختلاف” الى “الخلاف”. إنّنا نعيش واقعا صعبا تغيب فيه الثقافة السياسية العقلانية التي تعكس معاني التعدّدية والشفافية والتعايش والحوار.
بقلم العقيد محسن بن عيسى *
يا خيبة المسعى إن أضعنا كل ما بنيناه!
لا شك أنّ المناخ السياسي والثقافي والاجتماعي السائد أثّر بقوّة على الدولة ومؤسّساتها، وأفرز لنا “ديمقراطية الواجهة” التي أحدثت تغيُّرات في المجتمع و تبدُّلات في طبيعة الأشخاص. ومن المظاهر الملفتة للانتباه “الجوع السياسي” الذي يعني رغبة بعض التيارات والأشخاص في التهام نظام الحكم و الدولة أو جزء منهما.
علينا أن ننظر نظرة موضوعية إلى واقع البلاد، فلقد امتصت هذه العشرية لُبَابَ مؤسسات الدولة شيئا فشيئا وتكاد تجعلها قوالبَ جوفاء. أين نحن من بناء الدولة التونسية وعلى مراحل على أيدي وطنيين شرفاء؟ يا خيبة المَسعى إن أضعنا كل ما بَنيْنَاه!
ألم ننتهي بعدُ من مرحلة “الانتقال” إلى مرحلة “التفعيل”، ألم نفكّر بالرفق بهذا الشعب الذي يعيش على وقع الشبهات التي أصبحت لدينا كالريح تأتي من كلّ النواحي وتَمرُّ من كل مكان.
علينا أن نصارح أنفسنا في خضمّ وسياق المعركة الجارية أنّ المناورات السياسية أفسدت كل شيء وقُوّتها تكمن في إعلان الأعمال وإخفاء الأهداف. و مهما تحدّث المتحدّثون فانه لا صلة لها بالمبادئ الإصلاحية التي تقوم على الصراحة والوضوح في العلن والخفاء.
علينا أن نعترف أنّ الاختراق أصبح هاجسا تحمله الدولة والمؤسسات الرسمية. هناك عدد من المؤشرات التي تجعل الدولة موضع تساؤل على هذا المستوى، فالضعف المالي والاقتصادي، وهشاشة الوضع الأمني والسعي إلى تلقّي مساعدات يُدخلنا ليس فقط في دائرة نفوذ دول أخرى، بل أخطر من ذلك في دائرة الاختراق التي تعني المشاركة في صنع القرار.
يحتاج الاختراق بالمفهوم الذي أشرت إليه إلى بيئة تمهيدية لولادته وربما توفّرت بعدُ لدينا، وهناك أمثلة تاريخية متعدّدة يمكن استخلاص دروس منها، وتهم دول عربية وأوروبية عاشت هذه التجربة زمن السلم قبل الحرب.
هل أهل السياسة يحاولون إبعاد النّخب المثقّفة؟
نحن مضطرّون اليوم إلى أن نتجاوز هذا الوضع الصّعب و مُحتاجون إلى إصدار تقييمات على أنفسنا.
أعلم هديًا بأفكار أفذاذ رجال الفكر لدينا، أنّ أهل السياسة في أغلب البلدان وفي جميع العصور يحاولون إبعاد وإقصاء النخب المُثقّفة لكي تكون لهم الكلمة الأخيرة. وانطلاقا من هذا القرار تُولد الانتهازية كظاهرة في المؤسسات الوظيفية والحكومية ولدى الأحزاب والقيادات. وتنتشر بمقتضاها ممارسات النفاق والمهادنة المتناقضة مع الجوانب الأخلاقية والقيم والمبادئ العامة. لقد كان للمثقفين والمفكرين دور في نهوض ألمانيا بعد سقوط النازية وكذلك كان الحال في إسبانيا بعد فرانكو، والبرتغال بعد الدكتاتورية.
لقد سجّل التاريخ تجربة حقبة حكم بورقيبة بخلفيته السياسية 1956-1987، وحقبة حكم بن علي بخلفيته العسكرية 1987-2011. ولا شك أنّ ما نحتاجه اليوم لهذه الحقبة التي لا نُحسد عليها هو الحفاظ على استمرارية الدولة وحمايتها من الانهيار في إطار مقاربة سياسية-مؤسّساتية. لن يتأتّى هذا إلاّ بتحلّي النخبة بالجرأة لفرض الإصلاحات الضرورية. لم تتحقّق الإصلاحات في أوروبا وغيرها إلاّ بفضل قادة وزعامات تحلّوا بالشجاعة و الإقدام والحزم، وهذا ليس حكرًا على قطاع مُعيّن.
لا أرغب في استفزاز أحد، فالفكر الإصلاحي الذي نحتاجه ليس حالات معزولة وإنما فكرٌ يقوم على التواصل والتكامل بين مختلف مراحله. فكرٌ بدأ جَنِينِيًّا مع كتاب “أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك” لخير الدين باشا، ليتواصل مع شخصيات ذات ثقل أكاديمي و فكري و سياسي في المجتمع ومُعترف بها في المحافل الدولية.
إنّ من يدرك حقائق الوضع السياسي لدينا فكرا وعملا وشكلا ومضمونا يستنتج دون عناء أنّنا لم نتأمّل جيّدا دروس الماضي، ولم نتعلّم منها وأنّنا أضعنا كثيرا من الوقت بلا فائدة.
ليس كل السياسيين قادة وليس كل القادة سياسيين، هكذا تعلمنا في العلوم السياسية!
* ضابط سامي متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك