العدد الهائل من الأطباء التونسيين في قائمة الناجحين في مناظرة المُعادلة لشهائد الدكتوراء في الطب والتخصّص بفرنسا يدلّ على جودة التكوين الطبي بتونس، وجودة المخرجات المعرفية والإدراكية التي يكتسبها الطالب بمختلف كليات الطب بتونس… وهو يدل أيضا أن الأطباء الشبان عندنا غير مرتاحين للوضع العام لمهنة الطب و سعيهم إلى الهجرة إلى الخارج في غياب حلول وطنية.
بقلم الدكتور علاء الدين سحنون *
استفقنا يوم الأربعاء 16 جوان 2021 علي جملة من التهاني والتبريكات التي اجتاحت شبكة التواصل الاجتماعي احتفاءً بقائمة الناجحين في مناظرة المُعادلة لشهائد الدكتوراء في الطب والتخصّص بفرنسا، أو كما يُطلق عليه المشرّع الفرنسي مُسمّى ”امتحان التثبّت من المعارف”…
من السمات الخاصة بهذا الامتحان أنّه يقع مرّة في السنة لتمكين مجموعة من الأطباء على اختلاف جنسيّاتهم من حاملي الشهائد غير الأوروبية – و الذين يُمارسون الطب بفرنسا بصفة وقتية – من امتياز الإستقرار بصفة دائمة، والتمتع بنفس الحقوق المادية و المعنوية المكفولة بنصّ القانون لحاملي الجنسية الفرنسية. وعليه، فإنّ المُطّلع على هذه القائمة الإسمية النهائية لهذه المناظرة يختلجه شعور قائم على التناقض الواضح يتراوح بين الفرحة والحزن، الفخر والحسرة، الأمل و الإحباط..
فبقراءة القائمة تعترضك العديد من الألقاب الدارجة والمألوفة لدينا من قبيل: عباس، غشام، نصر، بعزاوي، عبدولي، عمار، عمدوني، لندلسي، عزيز، بجاوي…
جودة التكوين الطبي بتونس و نجاح الأطباء التونسيين في الخارج
من الواضح أنّ أغلب الناجحين من حاملي الجنسية التونسية، وثمة بعض الاختصاصات حظي فيها التونسيون بجميع المقاعد المدرجة في المناظرة. فهؤلاء الأطباء الأكفاء نجحوا في مناظرة فرنسية يجب أنْ تضمّ من جهة نظرية جنسيات مختلفة على الأقل جنسيات فرنكوفونية. وكأنّ الحال يعود بالذاكرة إلى سنوات الدراسة بكلية الطب بسوسة والتطلّع إلى قائمة الناجحين، أو حال التطلع إلى قائمة الناجين في مناظرة الإقامة بكليات الطب بتونس.
فرحة و فخر و أمل مأتاها تواجد هذا العدد الهائل من الأطباء التونسيين في هذه القائمة، وهذا إنْ دلّ على شيء فإنّه يدلّ بكلّ صراحة و موضوعية مطلقة دون غلوّ وتبجحٍ عن جودة التكوين الطبي بتونس، وجودة المخرجات المعرفية والإدراكية التي يكتسبها الطالب بمختلف كليات الطب بتونس تجعل منها بحقٍّ صروحا علمية ومعرفية تُضاهي ما هو موجود بأوربا، وتجعلها تتفوق في الآن ذاته عن نظيراتها الإفريقية و المغاربية، رغم النقائص الكبرى التي تشتكي منها في مستويات عديدة ومتنوعة.
معطى أخر يدعو للتفاؤل هو أن جل المتفوقين سنهم دون الثلاثين فيبقى الأمل قائماً أن يعودوا بعد بضع سنوات بخبرة تنف.ع قطاع الصحة خاصةً وبلدهم تونس عموماً.
بعد الفرحة و الفخر و الأمل … حزن حسرة وإحباط
للسائل أن يسأل لماذا يغادر كل هؤلاء ؟ لماذا أصبح حلم جل زملائي الشبان وحتى المتمرسين منهم مغادرة البلد؟ هل انقطع الأمل بغدٍ أفضل في بلدنا ؟ إنّ بعض البسطاء السذج يفسرون هذه الظاهرة بانعدام الوطنية لدى هؤلاء العقول النيرة فهم يذهبون حتى إلى حساب ما كلف تكوينهم على الدولة التونسية، لكن أسباب هذا القرار بالهجرة عديدة وعميقة فمنها الاقتصادي و الاجتماعى و الأمني و الإعلامي و السياسي.
لا يجب أن يغيب على أحد أن الطبيب المتحصل على شهادة دكتوراء في الطب والمرسم بعمادة الأطباء لا يستطيع، وبحكم القانون المنظم لمهنة الطب في تونس، أن يمارس أي مهنة أخرى فغياب أي أفق للعمل سواء في القطاع العام أو الخاص يدفع صاحب الشهادة الى البحث عن عمل خارج أرض الوطن سيما واننا نشهد منذ سنوات انهيارا في المنظومة العمومية نتيجة للمراهقة السياسية والفساد المالي والإداري المستشري.
كما نشهد غياب الأفق في اتباع مسيرة جامعية لما تشهده جامعاتنا من سوء تصرف و مجاملة ومحاباة وغياب إستراتجيات عمل واضحة؛ إلى جانب غياب الأفق في القطاع الخاص في ظل إفلاس الصناديق الاجتماعية وتزايد الأعباء الجبائية المسلطة على الطبيب في القطاع الخاص وتزايد المصاريف اليومية … حيث تجد الشاب الذي خاض التجربة يتخبط في مشاكل لا تحصى ولا تعد ليضطر بعدها إلى الإغلاق وترك المركب.
ينضاف إلى كل هذه المشاكل العنف المتزايد الجسدي واللفظي المسلط على كل مسدي الخدمات الصحية وخاصةً منهم الأطباء. هذا العنف هو نتيجة مباشرة للحملات الإعلامية المغرضة التي يشنها البعض على الأطباء بغية الشهرة والبحث على الإثارة ونسب المشاهدة.
الأمر 341 لسنة 2019 المنظم لدراسة الطب زاد من تأزيم الوضع
هل جنت على نفسها براقش إضافة إلى ما سبق من أسباب، فالطامة الكبري التي حلت بقطاع الصحة في تونس هي تداعيات الأمر 341 لسنة 2019 المنظم لدراسة الطب في تونس إذ أدخل تغييرات في التسميات والصفات لمنتسبي القطاع الصحي وذلك إرضاءً لجهات أجنبية، مما عمق ازمة الأطباء الشبان وجعلهم عاجزين عن الاندماج مع زملائهم ذوي الخبرة من الأطباء المباشرين في القطاع العام والخاص، فهدف هذا الأمر الحكومي كان خلق اختصاص جديد وهو طب العائلة تمهيدا لهجرة الأطباء الشبان إلى دول الخليج و أوروبا ومن كان عرّابا لهذا الأمر كان أول المهاجرين إلى كندا (وزير التعليم العالي السابق وطاقمه) فمن إدعى إصلاح ما هو أصلا صالح (الاعتراف الدولي بالكفاءات التونسية) قد أفسد الحاضر والمستقبل.
من هنا وفي الختام نستنتج أن لا دخل لوجود الحس الوطني من عدمه في هذه الهجرة فجزء منها عفوي اوجبته الضروف والجزء الآخر أمرٌ دبِّر بليل .
وفي الختام نهنئ من تفوق و نحيي من يرابط ونسأل من المنقذ…
* رئيس لجنة الصحة بالمجلس العربي الافريقي للتنمية المستدامة.
شارك رأيك