يغيب أحيانا عن أذهان السياسيين أنّ الديمقراطية لا تتحقّق بمجرّد إسقاط نظام حكم أو كتابة دستور جديد، بل بتوفّر شرط أساسي يتمثل في تغيير عقلية النّخب وتعزيز وعي الشعب. والمهم الآن البحث عن خيارات سياسية جديدة لرسم معادلات تنقذ البلاد التونسية من الأزمة الشاملة التي تمر بها منذ ما سمي بثورة جانفي 2011.
بقلم العقيد محسن بن عيسى *
من المعلوم أنّ الكتابات على هامش أحداث 2011 جاءت ذات مواقف واضحة في رفض “أوجه الاستبداد” على الرغم من عدم وضوح فكرة “النظام البديل”. مرّت السنوات وما زالت المواقف مُتباينة بالرغم من وطأة الواقع المرير.
جدل سياسي خارج السياق
قد يكون من المفيد القول بأنّ الشعب اختار مسار الديمقراطية التي هي شكل من أشكال تنظيم السلطة والممارسة السياسية، ولكن يبقى هذا رهين فهم معناها الصحيح. لقد طال الجدل حول الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخرج عن سياقه، ومن أبرز التداعيات تحوله الى “مُلاسنة“ باسم الحرية وإلى نوع من الانفلات والمجابهات التي لا ضابط لها على كل المستويات.
لقد أبعدتنا مظاهر التطفّل على السياسة في حلقات اللغو عن تأصيل الفكر الديمقراطي على أصوله وتشجيع الأقلام والأدمغة ذات الكفاءة على العمل في هذا الاتجاه. لا يمكن تجاهل هذا التسيب الكلامي الذي يقتحم البيوت دون استئذان أو مراعاة ليمارس هيمنته الانفعالية دون رقيب. التعميم صحيح إلا أن هذا لا يعني أنه لا يوجد أي استثناءات، فالكلام حسب ابن هشام “هو القول المفيد بالقصد، والمراد بالمفيد ما دلّ على معنى يحسن السكوت عليه”.
يتضح مما سبق أننا نعيش أزمة سلوك شبه عامة و عدم رضى بالأمر الواقع. هناك مخاوف من انهيار المنظومة السياسية وتفشي التسيب واللامبالاة وزيادة حدة العنف بأشكاله المختلفة.
القضية ليست في التفاضل بين الأشخاص
تساؤلات عديدة حول مدى تلاؤم مضمون الفصل 2 من المرسوم عدد 87 لسنة 2011 مع المشهد السياسي والاجتماعي الحالي والذي ينص على أنّ “الحزب يساهم في التأطير السياسي للمواطنين وفي ترسيخ قيم المواطنة ويهدف إلى المشاركة في الانتخابات قصد ممارسة السلطة…”.
يبدو أنّنا أمام عدم تطابق واضح للنص مع الواقع. إنّنا نعيش حالات اختلال في أخلاق السياسيين والمواطنين وتزايد في المواقف التي يغلب فيها الانفعال على الفكر والكلمة الجارحة على المنطق المتّزن.
القضية ليست في التفاضل بين الأشخاص في إخلاصهم أو وطنيّتهم، بل في الالتزام الأخلاقي الوطني. يدرك كل من عرف دواليب مؤسسات الدولة أن الاعتماد على الدستور والقوانين وإحكام صياغتها يبقى الإطار الأمثل الذي يَتكوّن في ظله السياسي الناجح والمواطن الصالح. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد انحرف ميزان المشرّع على هذا المستوى بدعوى الإصلاح وأفرز اختلافات أدخلت الدولة مرحلة أخرى من الزمن الصعب.ذ
من المؤسف حقا، أن يتصف العقل السياسي بعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال بعدم القدرة على استخلاص العبرة التاريخية واستيعاب المفهوم المؤسساتي للدولة؟!
* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك