لا شكّ أنّ الإعلام في تونس منذ 14 جانفي 2011شهد طفرة كميّة أكثر منها نوعية، حيث وصل عدد القنوات الإذاعية والتلفزية والإلكترونية إلى العشرات منها ذات التوجّه العمومي، وأخرى ذات التوجّه الخاصّ والجمعياتي حيث هذا الأخير لا يقلّ أهمية عن الإعلام التقليدي المتداول.
بقلم ميلاد خالدي*
إعلام الأسوار المُشرّعة والعالية
في ظلّ هذا الزّخم وكلّ ما تحمله الكلمة من عمق و آسى فإنّ الإضافة الحقيقية للإعلام لم تكن مأمولة ولا حتّى كانت في خدمة هذا الشعب، إمّا أن تجده إعلاما مائعا أو مثيرا للغبار أو مهادنا مصطفّا مع القوّي سواءً كان ماديّا أو معنويا. كثرة المشاكل التي تُحيط بوسائل الإعلام جعلت منه غير ممتثل للقوانين والضوابط الأخلاقية والمهنية.
قنوات إعلامية مُصادرة ولا تعرف نفسها هل ستضمّها الدولة إلى أسطولها الإعلامي المهترئ أو ستفوّته لرجال الأعمال ورؤوس الأموال أم أن تتركه هكذا ممزقّا ومكبّلا كما هو الحال مع إذاعة الزيتونة و شمس أف أم. وقنوات إذاعية وتلفزية أخرى ترزح تحت وطأة الإفلاس والإغلاق، فيهرع مالكوها إلى التماس المساعدات المالية من أصحاب الأموال لكن بشروط وإملاءات لأنّهم يرون أنّ تقديم مادّة إعلامية هادفة ومفيدة لا يدرّ أموالاً ولا يوفّر مردودا ماليا معتبرا حسب رأيهم الوصولي غير المتواضع بطبيعة الحال. لذلك فأسوار جلّ القنوات التلفزية والإذاعية الخاصةّ بقيت مفتوحة ومشرّعة يدخلها أيّ كان من ذوي الاختصاص أو خارجه فهذا لا يهمّ، المهمّ أن يتطفّل وأن يعيث فسادا في مضمارها.
الإعلام العمومي بقنواته وإذاعاته المختلفة والذي هو قائم بفضل الأجراء و دافعي الضرائب الذي يقع الخصم من رواتبهم شهريا ليتحفونا بمستوى إعلامي أقلّ ما يقال عنه أنّ مخيّب للآمال. تلمس هذه الخيبة حين يحاور صحافي(ة) في الإذاعة الوطنية أو إذاعة الشباب مسؤولا في الدولة عن سبب انقطاع المياه في منطقة من المناطق أو عن أسباب تعثّر حملة التلقيح أو عن سبب تردّي ظروف إسداء الخدمات في الإدارات العمومية، ومعاناة الشعب التونسي حيال ذلك. ستجد أنّ نبرة صوت الصحافي(ة) رتيبة ومتناغمة مع أباطيل وتسويفات وتعميمات ذلك المسئول الجاّف و المتهرّب و المتزئبق.
بمعنى أفصح فإنّ الإعلام العمومي هو بالتسمية فقط فهو إعلام حكومي أكثر منه عمومي فنسبة كبيرة منه مزالت تشدّ رحالها إلى ما قبل 14 جانفي حيث تجد أنّ الصحافيين يحاولون أن يهادنوا تقصير المسؤولين وتقاعسهم وتحميل المسئولية للمواطن لأنّه يهدر في استعمال المياه أو لأنّه لم يحترم عون الإستقبال في إحدى الإدارات أو بدعوى غلقه لقارورة الأوكسجين في مستشفى من المستشفيات. في كلّ هذه الحالات لا نستطيع أن ننكر تسيّب المواطن وعدم تحمّله للمسؤولية على نحو صادم. لكن في المقابل على الإعلام العمومي أن يشدّد الخطاب في مواجهة حفنة الوزراء والقياديين ويسمّي الأشياء بمسميّاتها لأنّ الذهنية الرقابية مزالت فاعلة حتى اليوم إذ أنّ Censure مزال على أشده فيمكن لمدير برمجة أو معدّ أو مقدّم أو منتج أن يجد نفسه معاقبا أو مبعدا لأنّه تجاوز الخطوط الحمراء التي وجب تجاوزها أصلا بكلّ حرفيّة ومهنيّة. وبالتّالي، فقد بقي الإعلام العمومي أسواره عالية تخنق كلّ إبداع أو تجاوز باعتباره مزال مكبلاّ بقرارات الإدارة والمسؤول. فالأسوار العالية، إذن، بقدر ماهي تحاصر جرأة الصحافي وحريته فهي كذلك تمنع القفز عليها، حتّى وإن تمكّنت من القفز فإنّك ستكسر كاحلك أو رقبتك، وهذا هو ما يرجونه “ابق حيث أنت”.
ثقافة ” البوز” أم ثقافة الأزيز؟
إذا رأينا أنّ أغلب وسائل الإعلام سواء كانت إذاعية أو تلفزية هي منتصبة على الحساب الخاصّ أمّا ما يقدمونه فهو إمّا من باب الإثارة أو بالأحرى إثارة الغبار في مسائل تافهة تثير الفضول والغريزة يعني عندما تنتهي من برنامج أو منوّعة ما لن يظلّ في ذهنك شيء يّذكر أو يُشكر وبالتّالي لن يكون هناك مجال للاستفادة. ناهيك أنّ المادّة الإخبارية، على سبيل الذكر لا الحصر، المقدّمة في الإذاعات الجهوية والإذاعات الوطنية هي متخلفة و متأخّرة وبطيئة بالمقارنة بما يقدّم في الإذاعات الخاصة كموزاييك وشمس اف ام حيث يبرّرون ذلك باحترام أخلاقيات المهنة ولا ينساقون وراء الخبر من أجل الإثارة أو Buzz، فهذا لا يبرّر ذاك، حيث يمكنك أن تحترم أخلاقيات المهنة وأنت في ذات الآن تقدّم خبرا أو تغطية إعلامية شافية وضافية والأهمّ من كل ذلك أن تكون في وقتها، ولا تدع الإعلام الخاصّ أو وسائل التواصل الاجتماعي تسبقك في ذلك وتفتكّ منك الريادة. وتعريجا على كلمة “البوز” فهي في الحقيقة تلك الأصوات الصادرة عن النّحل أثناء قيامه بعمله، يعني أنّه لا يصدر أصواتا من فراغ وإنّما عن امتلاء واكتفاء وأرجو أن تمّحي هذا الكلمة من وسائل الإعلام لأنّ Buzz ليس ما يعتقدونه من قبيل الأزيز والطنين والصفير الأجوف والمزعج. فما أحوجنا إلى ثقافة ” البوز” أي ثقافة العمل والجديّة والمثابرة والحرفيّة فالنحل لا يقوم ب “Buzz” خارج هذه الأطر. فالمنظومة التي نشأ عليها لا تسمح له باختراق ابجديات العمل و أخلاقياته حتّى وإن كانت بمفعول الغريزة.
زرّ الكهرباء المعطّب لكنّه يلبّي النداء
ما من شكّ أنّ من بين وظائف الإعلام هو مدّ المتقبّل بالمعلومة مُحيّنة مع تعليق حرّ ونزيه و إمتاعه و تثقيفه و نشر الوعي لديه، بيد أنّ الأمر في تونس مختلف إذ يطغى على القنوات والاذاعات ولا سيّما الخاصّة منها الطابع التجاري الاستهلاكي. فبقدر ما نحتاج إلى إنارة وتنوير فقد أظهر أنّ وسائل الإعلام في مجملها يتحكّم فيها المسؤول بالنسبة للمرفق العمومي والرأسمال بالنسبة للمرفق الإعلامي الخاصّ أي تظلّ كما زرّ الكهرباء الذي هناك من يتحكم به لكنّك لن تراه بالمعني الحرفي سوى ممارساته وأفاعيله. أنا أكاد أجزم أنّ من يتحكّم ويدير وسائل الإعلام يدرك أنّ معنى كلمة صّحافة La Presse بأصلها اللاتيني تعني Pressum أي ضغط وعملية الضغط في الغالب تكون من الأعلى نحو الأسفل، ومن يسلّط هذا الضغط يكون من أصحاب السلطة الإدارية والجاه المادي بالأساس.
لا نودّ أن ننسى أن عملية تتمّ من خلال زرّ الكهرباء الذي يملكونه، فبمقدورهم أن ينيروا غرفة الإعلام ويحددوا حتّى درجة الإنارة، أو أن يغلقوا الضوء تماما متى أرادوا بتعتيمهم حول الخبر والمعلومة. نذكر في هذا الشأن ما صار عندما وقع قطع تصوير التغطية الإعلامية لإذاعة الكرامة FM حين طفق الطبيب يشتكي لعضو الحكومة تقصير المسؤولين وعلى رأسهم والي الجهة لدى زيارته للمستشفى الجهوي بسيدي بوزيد الأسبوع الفارط. ممارسات قمعية ومتخلفة لا تنمّ عن شيء إلاّ عن تبعية الإذاعة لحزب الأغلبية في البرلمان إذا لم نقل للحزب الحاكم. أريدك أن تكون مُلمّا بالمعلومات والأخبار التي أريد أن أوصلها لك وليس ما تريد أو ما يجب أن يصلك، طالما أنّ الزرّ تحت إمرتي. لذا فيمكن تشبيه الإعلام في تونس بزرّ الكهرباء معطّب لكنّه يُلبّي النداء، تركيبته شُكلت كيفما اتفق دون حسن تصرّف أو تدبير وكلّما أجبرنا على استخدامه كانت النتيجة مُلفّقة و مُسيئة. إنّه الزرّ الذي يُجبر المتدخلين في الميدان الانصياع له باسم تلبية نداء الواجب: إنّه نداء الواجب نحو إعلام يُسطّح الوعي ويثير الغبار الميّت و يخدّر الأفئدة والعقول. على فكرة، الزرّ ليس في متناول الجميع وفي يد أيّ كان ولا أحد يعلم أين يوجد وفي أيّ جدار مُثبّت بحكم أنهم مغرومون بالجدران والأسوار العالية.
في مقولة شهيرة للسياسي النيوزيلندي نورمان دوجلاس “لا تأكل كلّ طبق تقدّمه لك وسائل الاعلام في هذا العصر …”. هي مقولة عميقة تُجرّنا إلى ضرورة فرز وانتقاء وتمحيص كلّ ما يُعرض وما يقدّم وما يُكتب لنا مع ضرورة طرح الأسئلة النقدية دون ضجيج و “أزيز” وتوجيه النقد اللاذع للمنظومة المتحكّمة في المجال والإطاحة بزرّ الكهرباء المعطّب واستبداله بزرّ الوعي الذي يجب أن يتوفّر عند المسؤول ورجل الأعمال كما عند المتلقّي العادي.
* كاتب و مترجم من تونس صدر له كتابان. كتاب بالإنجليزية ببلغاريا سنة 2019 بعنوان Lithium Visions وعمل مسرحي بتونس بعنوان “شيفرة جهبزاد” سنة 2020. عمل أخر روائي بالإنجليزية في طريقه إلى النشر، الى جانب تراجم أخرى.
شارك رأيك