و نحن نستعد للإحتفال يوم غد الأحد 25 جويلية بعيد الجمهورية علينا أن نعترف أنّ “الموجة الثورية” التي بدأت منذ 2011 كانت سرابا حوّلت حلم المواطن بالحياة الأفضل إلى كابوس حقيقي ومهّدت الطريق إلى تيارات انتهازية وظلامية وشعبوية عصفت وتعصف بأسس الدولة والمجتمع. لقد تبخّرت الآمال في مهب الخلافات داخل السلطة وبين الأحزاب، وبعض القرارات التي عادت بنا إلى ممارسات حكم البايات وأخطاء وانزلاقات حقبتي بورقيبة وبن علي. و ضاعت البلاد في متاهات الفوضى السياسية و الإفلاس المالي و الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية زادت من حدتها جائحة الكورونا.
.بقلم محسن بن عيسى *
يشكل تاريخ 25 جويلية 1957 مفارقة تاريخية، وبداية قصة بناء جمهورية رغم الفجوات والمفاجئات التي تقفز دون مُقدمات. لا شك أنّ هذا اليوم الذي نُحيي ذكراه هو نتاج عبقرية زعيم ونضالات نُخب مستنيرة وعطاء لتحرّك شعبي واسع. والأهم فيه هو الحدث التاريخي الذي يحمل في طيّاته موقفا من الماضي
حُكم البايات وفساد الحاشية
لقد كانت الدولة الحسينية منذ الخلاف الباشي-الحسيني، وعلى امتداد تاريخها موسومة بالخلافات والانتفاضات وتَشكُّلِ “الغُرف المظلمة” التي تحكمها الدّسائس وحلقات الغدر والخيانة.
ولئن ظهرت بعض الومضات من الإصلاح مع المشير أحمد باشا باي وخير الدين باشا والمنصف باي فقد أفرزت هذه الحقبة ثورة علي بن غذاهم سنة 1864، وانتفاضة الساحل في صائفة نفس السنة والتي تم تجهيز حملة خاصة لإخمادها تحت قيادة أحمد زروق.
لم يكن الفساد في تونس قبل 1881 انحرافا سلوكيا فرديا بل اختلالا في أجهزة الدولة. في ظل هذا الحكم الفردي المطلق ونمط الدولة “الريعية” وغياب القيم الاجتماعية التي تحث على صيانة الأموال العامة تيسّرت عمليات اختلاس أموال الدولة والهروب بها الى الخارج بداية مع محمود بن عياد سنة 1852، لتتواصل مع اليهودي نسيم شمامة سنة 1864 وابن أخيه شالوم شمامة الذي شغل قابض المالية التونسية من 1864 الى 1866 ومن 1869 الى 1873.
كثيرة هي الأدبيات التي تحدثت عن تواطؤ حكام الايالة في النهب الممنهج للموارد العمومية بصفة مباشرة عبر التركيز على بناء القصور والاستراحات الشتوية والصيفية وتبذير أموال طائلة في البذخ دون تفكير في احتياجات الشعب وضرورة إقامة اقتصاد قوي يحفظ هيبة الدولة.
في هذا المشهد البائس تمّت تولية بعض الأسماء في مسؤوليات أكبر من حجمها وتقريب المتملقين والمتزلفين على حساب الوطنيين وأبرزهم مصطفى خزندار. وفي هذا السياق شاعت الخيانات وبيع الذمم لدى حاشية الباي وبرز مصطفى بن إسماعيل كمهندس معاهدة الحماية مع القنصل الفرنسي “روسطان”… عن طريق الإغراء والوعود بالمناصب العليا على حساب مصلحة الوطن.
فُرضت الحماية الفرنسية على تونس سنة 1881، وجلس على عرشها منذ ذلك التاريخ الى يوم قرار المجلس التأسيسي بإلغاء الملكية سنة 1957 ثمانية ” بايات”. لم يذكر التاريخ لهم كفاءة معينة باستثناء بعض الأسماء التي ذكرناه آنفا.
كواليس إلغاء الملوكية
لم تعاقب فرنسا “الباي” في تونس لوقوفه مع الأتراك بتسليم الحبيب بورقيبة السلطة ودفعه إلى إلغاء الملوكية وإعلان الجمهورية لتقطع كل تواصل بين تونس والباب العالي، مثلما تطرح بعض الكتابات التي تجاهلت دور وتأثير الحركة الوطنية.
الواقع أنّ الوضع السياسي بالبلاد اتسم عند نجاح المفاوضات والحصول على الاستقلال الداخلي بتعدّد التيارات المتصارعة الداخلية والمناورات الخارجية. لم يكن آخر البايات يفعل شيئا من أجل تيسير إقرار نظام ملكي دستوري، فقد تردّد كثيرا أمام الكفاح من أجل الاستقلال، وخضع للتهديد وناصر الحركة اليوسفية غَداة إعلان الحكم الذاتي، وعطّل انتقال سلطة الأمن إلى التونسيين، وبقي مدة طويلة رافضا لدعوة المجلس التأسيسي إلى الانعقاد.
لقد باعد كل ذلك بينه وبين الشعب والنخبة الوطنية وتقهقرت سلطته حيث قررت حكومة الاستقلال أخذ سلسلة من القرارات أبرزها:
- مساواة أمراء وأميرات العائلة المالكة بجميع المواطنين، وعلى هذا الأساس رُفعت عنهم عدم الكفاءة المدنية التي كانت مفروضة وأُلغيت الامتيازات التي كانوا يتمتّعون بها تجاه القانون الجبائي وكذلك جميع أنواع الحصانات التي كان معترفا بها لهم (أمر 31 ماي 1956).
- تكليف متصرف تابع لوزارة المال بالإشراف على الأملاك الخاصة بالملك والدائرة السنية وأملاك التاج وعلى جميع المصاريف المتعلّقة بالعقارات والأثاث التابع للعرش (أمر 31 ماي 1956).
- إحداث شعار جديد للدولة عوضا عن الشعار القديم المعروف بـ “الخبشة“ ويحتوي الشعار الجديد على رمز الحرية والنظام والعدالة ولا يتضمّن أية إشارة إلى العائلة المالكة.
- ضمّ السلطة الترتيبية مشمولات الوزير الأكبر بعدما كانت ترجع بالنظر إلى الباي (الأمر العلي المؤرخ في 3 أوت 1956 ).
- إلحاق الحرس الملكي بالجيش، وذلك بأمر من رئيس الحكومة في 7 أفريل 1957.
وامام التركيز التدريجي لسيادة الشعب وبعد سنة ونصف من إعلان الاستقلال (20 مارس 1956)، قرّر المجلس القومي التأسيسي المجتمع بباردو يوم الخميس 25 جويلية 1957 وعلى الساعة السادسة مساء إلغاء الملوكية وإعلان الجمهورية.
لقد سبق للمجلس التأسيسي ان عقد جلسات منذ 9 أفريل 1956 بهدف وضع دستور جديد يتم عرضه على الباي لختمه عملا بالفصل الثالث من الأمر العلي الصادر في ديسمبر 1955، إلا أنّ إعلان الجمهورية قد أجهض هذه الطريقة العقدية (دستور الملكية الدستورية)، وانفرد المجلس بحكم تجسيمه لسيادة الشعب بعملية وضع دستور الجمهورية.
الدفاع عن قيم الجمهورية
بدأ الرئيس ” بورقيبة” مشواره السياسي بالعديد من الإنجازات حيث وطّد أركان الحكم وأشرف على جلاء آخر جندي فرنسي من التراب التونسي وإجلاء المستعمرين من الأراضي الزراعية وإقرار إجبارية التعليم ومجانيته، وتوفير التغطية الصحية والعناية الطبية، وتوحيد القضاء، وتخفيض عدم المساواة بين الأفراد والشرائح الاجتماعية والمناطق.
وجاءت سنة 1974 كبداية لتعثر المسار السياسي تحت تأثير الوضع الصحي للرئيس وصراع الخلافة الذي شهدته أجهزة الدولة وانتهى بإسناد الرئاسة للزعيم مدى الحياة وفي ذلك تضارب مع مبادئ قيام الجمهورية. وتضافرت عدة عوامل داخلية وخارجية سنة 1984 لتزايد الأزمة الاقتصادية-الاجتماعية التي عرفتها البلاد. ومع تباعد المسافات الرمزية بين انتظارات الشعب ومحدودية قدرة الدولة على الفعل حدث ما كان منتظرا.
استيقظ الشعب التونسي يوم 7 نوفمبر1987 على بيان من الوزير الأول زين العابدين بن علي يعلن فيه إزاحة الرئيس بورقيبة وتحمّله أعباء رئاسة الجمهورية وهو ما يعرف بـتحول السابع من نوفمبر. ووُضع الزعيم تبعا لذلك في الإقامة الجبرية بمرناق ثم بمسقط رأسه المنستير حتى وفاته سنة 2000.
ضيّع بن علي فرصة تاريخية لتحويل تونس الى قوة اقتصادية، بمواردها المختلفة والقوى العاملة المتاحة، والنخب التي تزخر بها البلاد في كافة المجالات. فعلى مدى 23 سنة كانت مؤسسات الدولة قادرة على التغيير لولا شكلية الانتخابات، وتفشي الفساد بشكل لا يمكن تصوّره، وتضخّم ثروته وثروة أسرته وأصهاره إلى حدّ خرافي. لقد خسر ثقة الشعب شيئا فشيئا وفقد ولاء مختلف أطيافه.
“الموجة الثورية” لعام 2011 مهّدت الطريق إلى تيارات انتهازية وظلامية
اندلعت الاحتجاجات في ديسمبر 2010 للإطاحة بهذا النظام الذي لم يوفِ بوعوده لضمان الحياة الكريمة وإجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية المستديمة والمُرضية. ولم يمر شهر واحد، إلا وقد لاذ بن علي وأسرته بالفرار في صورة مُهينة.
علينا أن نعترف أنّ “الموجة الثورية” التي بدأت منذ 2011 كانت سرابا ومهّدت الطريق إلى تيارات انتهازية وظلامية وشعبوية عصفت وتعصف بأسس الدولة والمجتمع. لقد تبخّرت الآمال في مهب الخلافات داخل السلطة وبين الأحزاب، وبعض القرارات التي عادت بنا إلى ممارسات حكم البايات وأخطاء وانزلاقات حقبتي بورقيبة وبن علي.
لم يعد خافيا على أحد أنّ البلاد تعيش اليوم مزيدا من مظاهر البؤس والفقر، والحاجة، والتسلط. ومن المبالغ فيه تثمين حصيلة السنوات العجاف الماضية من خلال الانفراج الذي تحقق في الحريات العامة، فالإنسان لا يعيش بحرية التعبير فقط بل بتلبية احتياجاته الأساسية الحياتية. لقد تحوّل حلم المواطن بالحياة الأفضل إلى كابوس حقيقي.
لا شك أنّ النظام السياسي (الدستور) الذي تم اعتماده منذ 2014 شكّل حدثا تاريخيا، ولكنه جعل البلاد رهينة تجربة مأخوذة عن واقع مخالف لواقعنا. وهنا أصل المشكلة. لقد تعثّرت البلاد أكثر مما يلزم نتيجة الأزمات المترتبة عن ذلك وآخرها أزمة مجابهة جائحة كورونا.
من هنا تتشكل القناعة بأنّ ثقافة المواطنة والديمقراطية تتطور في مناخ الثقافة السياسية السليمة والمتحرّرة، ثقافة العقلانية والمؤسساتية. وعليه فالحاجة تبدو ضرورية لتجاوز أزمة الضمير والعقل السياسي في البلاد والاتجاه نحو إعادة ترتيب الأوضاع بأكثر واقعية والعودة الى قيم الجمهورية والدولة الوطنية.
* عقيد متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك