الاختيار لكم سيداتي وسادتي معارضو و مناضلات الماضي. فإما التمادي في التخاذل وفقدان شرف تحمل المسؤولية تجاه تونس المهانة و المفقرة، و إما التشمير مجددا على سواعد النضال والاستعداد للمجابهة في معركة حاسمة بين الظلاميّة والتنوير فالشيء الوحيد الأسوأ من أن تكون أعمى هو أن تمتلك البصر وتفقد البصيرة.
بقلم علي السلامي *
منذ استيلاء تنظيم النهضة على السلطة في تونس سنة 2011 تتالت الفضاعات و الأزمات والمآسي على جميع المستويات. فعلاوة عن التقهقر الاقتصادي والتدهور الاجتماعي الذين لم تشهدهما الجمهورية التونسية في تاريخها المعاصر، فإن العشرية المنقضية من حكم تنظيم الإخوان المسلمين وأتباعه خلقت وضعا رهيبا أشبه ما يكون بالدمار الشامل من أهم مخلفاته:
– تهاوي هيبة الدولة يوما بعد يوم وإنخرام أمنها ودوس كرامة شعبها،
– تغلغل الإرهاب في كامل أرجاء البلاد بجبالها وقراها ومدنها،
– ظهور الاغتيالات السياسية، تفشى العنف الجسدي وتعدد الاعتداءات وتسربها داخل هياكل ومؤسسات الدولة والمرفق العام،
– انخرام السلطة القضائية وتركيعها بالتمام بالابتزاز وبالارتشاء لمصالح حزبية ومآرب أيديولوجية شأنها شأن أفضع الدكتاتوريات في العالم،
– اختراق المصالح الأمنية و استغلالها في قمع الحقوق والحريات،
– نهب المال العام وترسيخ عقلية الغنيمة والمحسوبية وتسخير وسائل وإمكانيات الدولة لأغراض شخصية،
– الاستيلاء على الإعلام و الهيمنة عليه وإرضاخه بمنطق المقايضة في خدمة بروباغندا حزب النهضة،
– تقهقر سمعة الجمهورية التونسية على الصعيد الدولي جراء سياستها الراعية للإرهاب وتصديرها للإرهابيين…
هذه حال تونس.
لكن الملفت للنظر و الداعي للإستغراب هو ما يتسم به المشهد السياسي من تواطىء من الطبقة السياسية الموسّعة وقادة الرأي ـ إن وجدوا ـ وبالأخص معارضو الأمس أي معارضو زمن بن علي. هؤلاء لم يحرّك فيهم هذا الوضع المتردي أيّ ساكن و لم توقظ فيهم الأزمات المتتالية أيّة ردة فعل ولم تهز في ضمائرهم أيّ إحساس بأداء الواجب نحو الوطن.
معارضو الأمس تركوا ساحة النضال
معارضو الأمس، السيدات والسادة المنتمون إلى حساسيات سياسية وأديولوجية مختلفة : يساريون شيوعيون، تقدميون ديمقراطيون، قوميون عروبيون، وحدويون ناصريون، جماعة 18 أكتوبر، المجتمع المدني وغيرهم من “المناضلين” الذين عملوا فرادى وجماعات ضد نظام بن علي.
هؤلاء جميعا أو الأغلبية منهم غابوا تماما عن المعارضة وتركوا ساحة النضال : ساحة راجت فيها رائحة الفساد النـتـنـة، ساحة سالت فيها دماء مواطنين أبرياء، ساحة تعتدي فيها شرذمة صعاليك على الحقوق والحريات و على العزّل من النساء والرجال، ساحة أستبيح فيها إحتقار شعب بأكمله. بإختصار ساحة فاقت في قبحتها وفي فضاعتها أقصى ما إتسم به نظام بن علي بل وأبشع الأنظمة الرجعية التعسفية.
مناضلو الأمس، عميت بصائرهم عمّا يجري من إستيلاء فاحش وقبيح على مقاليد الحكم بسلطاته الثلاث ومن تلاعب وعبث بالدولة، و إستحواذ على مؤسساتها.
كلّهم انسدّت مسامعهم عمّا يخطط له أخطبوط الإسلام السياسي بكل أطرافه المسمومة من برامج لدحض مكتسبات الدولة العصرية.
كلّهم خرست أفواههم عن الكلام لفضح سقط و خبث نوايا من نهبوا السلطة وعمموا الفساد ورعوا الإرهاب،
لا أحد بهرت عينيه دماء شكري بلعيد و محمد البراهمي جراء غدر سفاحي الجماعة فحاول نثرها في وجه المجرمين الفالتين من العقاب أو حتى ساند من تطوع في سبيل كشف الحقيقة.
لا أحد وصل أذنيه بكاء أمّ وأخت وزوجة رجل أمن أو جندي إغتاله غدرا أفراد سكنوا الجبال وتمتعوا بحماية سياسيين وقضاة متواطئين…
لا أحد منهم تبين أو حتى لاحظ فضاعة حال البلاد والعباد فصرخ في وجه الجائرين أو نبس ببنت شفة ليحمّلهم مسؤولياتهم أمام الشعب والتاريخ.
كلهم فقدوا البصر والسمع والكلام
المؤكد هو أن معارضي الأمس أو على الأقل الأغلبية منهم، هم أصدقاء وحلفاء حكّام اليوم، نالوا شخصيا خلال العشرية الفارطة كل ما كانوا يناضلون من أجله وما كانوا يصبون إليه. فأحدهم أصبح رئيسا للدولة، والآخر رئيسا للمجلس التأسيسي، واالبعض وزراء، والمناضلة أصبحت إطارا ساميا مرافقا لرئيس الجمهورية، والأخرى رئيسة للجنة حريّات أحدثت على المقاس، والآخر مقترح من تنظيم النهضة كعضو بالمحكمة الدستورية، و الآخرون نواب إلى غير ذلك…
لقد نالوا المناصب ومعها الامتيازات الأزلية و تمتعوا بالشهرة فضمنوا الراحة و الرفاه مقيمين الحجة على أن معارضتهم المشبوهة و نضالهم الماضي لم يكونا سوى مسرحية لو أشبعها بن علي سخاءا ودلالا لضمن انصياعهم وولائهم له.
الأخطر والأكثر خزيا هو أن مجموعة معارضي الأمس لم تتفطن، إما بلاهة أو استبلاها لمن اغتر في صدق نواياهم و مقاصدهم النضالية، إلى أن تنظيم النهضة ليس إلا إعادة تدوير لحزب بن علي أي التجمع الدستوري الديمقراطي فهو اليوم يضم الأمين العام السابق للتجمع كمستشار أول لرئيس الـتنظيم وهي أيضا وكر لأكبر أوغاده و أقبح منتميه خلال أقسى سنوات الجمر، مسخرّين بالمآت والآلاف لإختراق أجهزة الدولة ولاحتواء المواطنين و لإعادة تطبيق الممارسات التي جبلوا عليها لشراء الذمم وتزوير الانتخابات.
كل المؤشرات تدل على أن مجموعة مناضلي الماضي تبدو هي الأخرى قد باعت ذمتها تماما لتنظيم النهضة وتعدّت حال الذي لا يرى ولا يسمع لتـنقلب ـ بقدرة قادر ـ إلى بوق من أبواق هذا الحزب تسانده في أفعاله المهينة طورا وتحارب خصومه السياسيين أطوارا وتدافع عنه وعن أفعاله و عن كل خروقاته.
انعدام المسؤولية تجاه الوطن و التخلي النهائي عن تونس
لو حاولنا جدلا جرد بعض أسباب نضال معارضي بن علي واستبداد نظامه السياسي، ومقارنتهاْ بفضاعات تنظيم الإخوان المذكورة في أول المقال وبواقع تفشي الفقر و استفحال العربدة و الفساد و تردي الحالة الصحية، لكان الاستنتاج قاسيا على هؤلاء. فالحكام الحاليين للبلاد أياديهم ملطخة بدماء من تصدى لهم، وشرفهم مدنس بجراح ضحايا الرش ووجوههم يغمرها غبار التحالف مع الفاسدين والراعين للإرهاب ورائحتهم نتنة من إسناد من ليست له كفاءة ومن تسبب في انخرام الوضع الاقتصادي والمالي واستفحال الوباء وتضاعف عدد ضحاياه ؛ فسنكون محقين تماما في اعتقادنا أن انعدام أية ردة فعل أو أي تحرك من قبل معارضي الأمس هو عبارة عن حالة موت لروحمهم النضالية وإعلان لانهزامهم أمام شياطين الإسلام السياسي والفساد مجتمعين. هل لا يجب الاعتقاد بأنه تصريح رسمي عن خيانتهم لمبادىء الدفاع عن الحقوق الحريات والتسامح مع القتلة ودليل قاطع على انعدام مسؤوليتهم تجاه الوطن و عن تخليهم نهائيا عن دورهم الذي طالما أوهمونا به في الدفاع عن تونس والتضحية في سبيل حريتها وكرامتها.
كل ما نتمناه هو أن يكون لهم نفس أخير من العزة ورمق ضئيل من شأنه أن يدفعهم إلى استئناف العمل النضالي وإسترجاع سلاح المعارضة الشجاعة والنافذة لغاية العمل دون مزيد تقهقر الدولة وضياعها.
قيس سعيد أو جاد الفقير بما عنده
الأمر أصبح اليوم جليا ولا مجال لزيادة التأمل فيه. فالميدان فيه من جهة، المستفردون بالحكم من رجعيين وفاسدين وكاذبين ماضون في استبدادهم عبر التشبث بالحكم و إخضاع الدولة لمصالحهم والقوانين لفائدتهم. ومن جهة أخرى رئيس للجمهورية نزيه و شجاع ـ تنطبق عليه مقولة جاد الفقير بما عنده – يتصدى للفساد والفاسدين بصلاحياته المحدودة وبتمكنه من الدستور ومن معرفة سياسية وقانونية، ومن جهة ثالثة، شباب حامل هموم ومأساة شعب بأكمله، في حالة غليان بدأ صدى هيجانه لكسر منظومة الفساد يسمع ويفزع.
الاختيار لكم سيداتي وسادتي معارضو و مناضلات الماضي. فإما التمادي في التخاذل وفقدان شرف تحمل المسؤولية تجاه وطنكم، و إما التشمير مجددا على سواعد النضال والاستعداد للمجابهة في معركة حاسمة بين الظلاميّة والتنوير فالشيء الوحيد الأسوأ من أن تكون أعمى هو أن تمتلك البصر وتفقد البصيرة.
* رجل أعمال.
شارك رأيك