في إطار حالة من التخبط في الحياة السياسية في البلد الشقيق تونس، وعجز ميكانيزمات الدولة عن العمل بالصورة التي أرادها لها واضعو الدستور التونسي الحالي عام 2014 ، أصدر الرئيس التونسي جملةً من القرارات استناداً لحالة الطوارئ وفقاً للمادة (80) من الدستور، من جملتها تجميد عمل مجلس نواب الشعب، ورفع الحصانة عن أعضائه، وإقالة رئيس الحكومة، وتوليها بواسطة أشخاص يعينهم هو، إضافة لتقلّد رئاسة النيابة العامة.
بقلم د. أشرف سمحان *
وقد أثارت القرارات المذكورة خلافات واسعة النطاق حول مدى موافقتها وأحكام الدستور، وإذا كان جلّ من تناقش في مسألة دستورية القرارات المذكورة انحصر في مدى تخويل المادة (80) من الدستور اتخاذها، فإن المتعمّق في هذه المسألة يجد أنها لا تنحصر في المادة المذكورة، وإنما لها ارتباطات أخرى كثيرة، من الممكن مناقشتها في نقاط سبعة على النحو التالي:
أولاً: في ضوابط تفسير الدستور:
إذا كانت المادة (80) من الدستور والتي اتسند إليها الرئيس التونسي في قراراته المذكورة، لم تنص صراحة على صلاحية اتخاذ أي من القرارات التي اتخذها بالفعل استناداً إليها، فلا بد للتصدي لتفسير نصوص الدستور للبحث في مدى تخويلها لاخاذ تلم القرارات.
ومبدأ الرأي في هذه المسألة يكون من قاعدتين ضابطتين لتفسير هذا الدستور: أولاهما التي قررها صراحة الفصل (146) الذي نص على أن [تُفسَّر أحكام الدستور ويؤوّل بعضها البعض كوحدة منسجمة]. ما يعني أنه حتى مع استناد الرئيس قيس سعيّد للمادة (80) من الدستور في إسباغ الصفة الشرعية لقراراته محل النقاش، فإن قراءتها في ذاتها قد يصل بنا إلى نتائج قاصرة عن صحيح القانون.
أما الضابط الآخر لتفسير الدستور فهي قاعدة التفسير الضيق لنصوص الدستور، والتي تؤسس عل القول بأن احترام الدستور يفرض التفسير الضيق له، والذي يوجب عدم اتخاذ اجراء لا يقرر الدستور صراحة وجوب أو جواز اتخذاه بحسب الأحوال، فالقاعدة ألا إجراء إلا بنص يخول صراحة اتخاذه.
ثانياً: في تحديد طبيعة نظام الحكم في تونس والمبادئ الرئيسية الحاكمة والناظمة له:
نص الفصل 145 من الدستور نجدها تنص على أن [توطئة هذا الدستور جزء لا يتجزّأ منه]. وبالرجوع لما ورد في توطئة الدستور التونسي الصادر سنة 2014 وتحت عنوان (الدافع لكتابة الدستور) نجد فيها أنه [… وتأسيساً لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية السيادة فيها للشعب عبر التداول السلمي على الحكم بواسطة الانتخابات الحرة وعلى مبدإ الفصل بين السلطات والتوازن بينها، ويكون فيه حقُّ التنظّمِ القائمِ على التعددية، وحيادُ الإدارة، والحكمُ الرشيد هي أساسَ التنافس السياسي ..].
وبالرجوع كذلك إلى الفصل (2/1) من الدستور نجدها تنص على أن [تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون].
كذلك ينص الفصل (3) من ذات الدستور على أن [الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات، يمارسها بواسطة ممثليه المنتخبين أو عبر الاستفتاء].
ومن مجمل النصوص السابقة، نجد أنها أكدت على مجموعة من المبادئ الكلية الناظمة لنظام الحكم في تونس والحاكمة له، على رأسها ما يلي:
1- مبدأ سيادة الشعب، الذي له وحده السيادة، ويمارسها بواسطة ممثليه المنتخبين وفقاً للآلية التي يحددها الدستور حصراً، وهو ما يتوزع بشكل رئيسي بين سلطتين منتخبتين بشكل مباشر من قبل الشعب، مجلس نواب الشعب ورئيس الدولة.
وقد حدد كل من الفصلين (50) و(75) كيفية ممارسة الشعب سيادته وسلطاته من خلال ممثليه، حيث قرر الفصل (50) أن [يمارس الشعب السلطة التشريعية عبر ممثليه بمجلس نواب الشعب أو عن طريق الاستفتاء]. وكذلك قرر الفصل (75) أن [يُنتخب رئيس الجمهورية لمدة خمسة أعوام خلال الأيام الستين الأخيرة من المدة الرئاسية انتخاباً عاماً، حراً، مباشراً، سرياً، نزيهاً، وشفافاً ..].
2- مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها، وهو ما يمنع أي سلطة أن تتغول على غيرها، ناهيك عن الاستحواذ الكامل عليها والاستئثار بها، وهو ما أثيرت شبهة تحققه في القرارات المذكورة، سيما إذا علمنا أن رئيس الدولة ليس رأس السلطات الثلاثة كما في بعض الأنظمة السياسية الأخرى، بل هو فقط وفقط جزء من السلطة التنفيذية، يتشارك في ممارستها مع رئيس الحكومة، كما سيمر معنا تفصيلاً في معرض الحديث عن المادة (71) من الدستور.
3- مبدأ التشاركية، الذي يقوم عليه النظام السياسي أو نظام الحكم في تونس، وهو ما يمنع لأي سلطة من سلطات ادولة الثلاث أن تنفرد بالحكم بشكل يقصي معه سلطة أخرى، بمعنى منع الإنفراد بتسيير دفة الدولة حتى في حالة الطوارئ التي يتعرض فيها وجود الدولة وكيانها للخطر والتي نظمتها المادة (80) من الدستور، والتي كما سيمر معنا يتشارك فيها رئيس الدولة في قراراتها مع كل من مجلس نواب الشعب ورئيس الحكومة، وبما يفترض معه أن يكون تحت رقابة المحكمة الدستورية التي لم تتشكل للأسف حتى الآن.
4- مبدأ التعددية، الذي يفرض ألا يكون لطيف سياسي واحد أن ينفرد بشكل تعسفي بالحكم، تحت أي ظرف كان، وإنما يقوم التنافس السياسي بناء على مجموعة من القواعد كحقُّ التنظّمِ القائمِ على التعددية، وحيادُ الإدارة، والحكمُ الرشيد، الذي لا يمكن أن يعني أكثر من نقيض الحكم التعسفي.
وإذا كان يمكن لمبدأ التعددية أن يتعطل أو يحد من نطاقه الطبيعي مؤقتاً في أحوال الطوارئ، فإن مبدأ التشاركية يبقى قائماً بالكامل في حدود ما يعينه له الدستور بطبيعة الحال.
ثالثاً: في التحديد الدقيق للمركز النظامي لرئيس الدولة وفقاً للدستور التونسي لسنة 2014، وعدم علوّ مجلس نواب الشعب عليه.
جاءت القواعد الناظمة للمركز النظامي لرئيس الجمهورية ضمن القسم الأول: رئيس الجمهورية، والذي جاء تحت الباب الرابع: السلطة التنفيذية، ما يعني أن رئيس الجمهورية جزء من السلطة التنفيذية حصراً، حيث يمارسها مع رئس الحكومة تبعاً للفصل (71) من الدستور. والذي نص على أن [يمارس السلطة التنفيذية رئيس الجمهورية وحكومة يرأسها رئيس الحكومة].
إلا أن الفصل (72) من الدستور تعطي لرئيس الجمهورية صفة أخرى خلافاً صفته رئيساً للجمهورية، حيث نص على أن [رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور]. وإلا فأن القول بخلاف ذلك يجعل من عبارة (رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة) التي جاءت في مقدمة النص السابق لغواً لا طائل منه يرجا ولا فائدة منه تنتظر، وهو ما يعني أن رئيس الجمهورية هو رأس الدولة التي تقتضي قوتها واستمرارية وجودها وحفظ كيانها في الحوال التي تهدد فيها كل ذلك، ألا أن تكون برأسين أو ثلاثة.
إضافة لما سبق، ففي بطلان الحجة القائلة بأن مجلس نواب الشعب هم وحدهم ممثوله، يمكن القول بأن رئيس الجمهورية هو الآخر ممثل للشعب، وبأسلوب الانتخاب المباشر أيضاً، ما يعني انه يستمد صلاحياته من الشعب بشكل مباشر، شأنه في ذلك شأن مجلس نواب الشعب، فكلاهما ممثل للشعب بأسلوب الانتخاب، حيث نص الفصل (75) [يُنتخب رئيس الجمهورية لمدة خمسة أعوام خلال الأيام الستين الأخيرة من المدة الرئاسية انتخاباً عاماً، حراً، مباشراً، سرياً، نزيهاً، وشفافاً، وبالأغلبية المطلقة للأصوات المصرح بها]. إلا أن ذلك لا يعني البتة الاستغناء بمركز رئيس الجمهورية عن مركز مجلس نواب الشعب، فهذا الأخير أكثر تعبيراً عن إرادة الشعب من رئيس الجهمورية، من ناحيتين، أولاهما التعدد في أعضاء مجلس نواب الشعب الذي يكون بحكم القعل والمنطق وطبائع الأشياء أكثر ديمقراطية من الفرد الواحد الذي يمثله المركز النظامي لرئيس الجمهورية. وثانيتهما سلطات الرقابة التي يمارسها المجلس بالتصويت والتي لا تتفق والطبيعة الفردية للمركز النظامي لرئيس الجمهورية.
إضافة لما سبق، كذلك فإن مجلس نواب الشعب ليس الجهة الوحيدة التي تمنح التزكية للمترشحين لمنصب رئاسة الجمهورية، حيث نصت المادة (74/4): [4- تشترط تزكية المترشح من قبل عدد من أعضاء مجلس نواب الشعب أو رؤساء مجالس الجماعات المحلية المنتخبة أو الناخبين المرسمين حسبما يضبطه القانون الانتخابي. تشترط تزكية المترشح من قبل عدد من أعضاء مجلس نواب الشعب أو رؤساء مجالس الجماعات المحلية المنتخبة أو الناخبين المرسمين حسبما يضبطه القانون الانتخابي].
كذلك، فإذا كان رئيس الجمهورية يقوم بأداء اليمين الدستورية أمام مجلس نواب الشعب، وفقاً للفصل (76) من الدستور والتي تنص على أن [يؤدي رئيس الجمهورية المنتخب أمام مجلس نواب الشعب اليمين التالية: “أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال تونس وسلامة ترابها، وأن أحترم دستورها وتشريعها، وأن أرعى مصالحها، وأن ألتزم بالولاء لها”]. فإنه هو نفسه من يملك حل مجلس نواب الشعب، وفقاً للفصل (99) من الدستور، في حالة واحدة ووحيدة هي عجز الحكومة التي يعينها عن نيل الثقة، حيث نصت على أن [1- لرئيس الجمهورية أن يطلب من مجلس نواب الشعب التصويت على الثقة في مواصلة الحكومة لنشاطها، مرتين على الأكثر خلال كامل المدة الرئاسية، ويتم التصويت بالأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس نواب الشعب، فإن لم يجدد المجلس الثقة في الحكومة اعتبرت مستقيلة، وعندئذ يكلف رئيس الجمهورية الشخصية الأقدر لتكوين حكومة .. 2- عند تجاوز الأجل المحدد دون تكوين الحكومة، أو في حالة عدم الحصول على ثقة مجلس نواب الشعب، لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في أجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوماً].
وإذا كانت الفقرة الثالثة من الفصل (99) من الدستور يقرر أنه [.. وفي حالة تجديد المجلس الثقة في الحكومة، في المرّتين، يعتبر رئيس الجمهورية مستقيلاً]، إلا أن تلك الحالة التي يكون فيها لمجلس نواب الشعب اليد العليا على رئيس الجمهورية (بفرض اسقالته الحكمية) لا تتقرر وفقاً للنص السابق إلا في إحدى حالتين اثنتين هما:
- إذا لم يستعمل رئيس الجمهورية صلاحيته في حال مجسل نواب الشعب، وأصر على عدم منح الثقة للحكومة التي يعينها للمرة الثانية.
- إذا حل رئيس الجمهورية مجلس نواب الشعب، وأصر بعد تشكيله الجديد، عدم منح الثقة للحكومة التي عينها.
كذلك، فإن لمجلس نواب الشعب صلاحية طلب اقالة رئيس الجمهورية دون أن يكون له هو ذاته إقالة الرئيس، حيث يكون للمحكمة الدستورية تقرير ذلك، وفقاً للفصل (88) من الدستور، والتي تنص على أنه [يمكن لأغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب المبادرة بلائحة معللة لإعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور، ويوافق عليها المجلس بأغلبية الثلثين من أعضائه، وفي هذه الصورة تقع الإحالة إلى المحكمة الدستورية للبت في ذلك ..].
أخيراً، فحتى تعديل الدستور، ليس اختصاصاً محصوراً بيد أي من مجلس نواب الشعب أو رئيس الجمهورية وحده، بل هو اختصاص مشترك (يحكمه مبدأ التشاركية) بين كل من مجلس النواب والمحكمة الدستورية ورئيس الجمهورية، ومن فوقهم جميعاً وبعدهم الشعب صاحب السياة الأصيل من خلال الاستفتاء. حيث نص الفصل (144) على أن [1- كلّ مبادرة لتعديل الدستور تُعرض من قبل رئيس مجلس نواب الشعب على المحكمة الدستورية لإبداء الرأي في كونها لا تتعلق بما لا يجوز تعديله حسبما هو مقرر بهذا الدستور.
2- ينظر مجلس نواب الشعب في مبادرة التعديل للموافقة بالأغلبية المطلقة على مبدإ التعديل.
3- يتم تعديل الدستور بموافقة ثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب. ويمكن لرئيس الجمهورية بعد موافقة ثلثي أعضاء المجلس أن يعرض التعديل على الاستفتاء، ويتم قبوله في هذه الحالة بأغلبية المقترعين].
رابعاً: في عدم صلاحية الفصل (80) من الدستور لاتخاذ القرارات الصادرة يوم 25/7/2021 :
بالرجوع للفصل (80) من الدستور، نجده يقرر أن [لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب. ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة. وبعد مضيّ ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوما. ويُنهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها. ويوجه رئيس الجمهورية بيانا في ذلك إلى الشعب].
وبقراءة النص السابق، يجد أنه تشوب الاستناد إليه إشكالات عدة، تتمثل في تجاوز رئيس الجمهورية قيس سعيد لمبدأ التشاركية التي يعد الفصل (80) من الدستورمن أهم تطبيقاتها، والذي أكد على احترام هذا المبدأ (المقرر صراحة في توطئة الدستور- ديباجته). ومن مظاهر خرق مبدأ التشاركية المذكور ما يلي:
1- مخالفة تجميد اختصاصات مجلس النواب لروح المادة (80) التي فرضت أن يبقى مجلس النواب منعقداً بشكل دائم بحكم الدستور، ويمنع حله، وهما القاعدتان اللتان تبدو الحكمة منهما واضحة للغاية، تتمثل في إسباغ الرقابة على أوامر وتدابير رئيس الجمهورية خلال الفترة التي تتخللها حالة الطوارئ. وإن كان الحق يقال في هذا المقام أنه في حالة كان عجز مؤسسات الدولة عن القيام بمهامها المنوطة بها أصلاً بسبب تعنّت مجلس نواب الشعب، فمن المتعذر أن يفترض تعاون هذا المجلس مع رئيس الجمهورية في مواجهة هذه الحالة، فالقاعدة التي توجبها اعتبارات المنطق السليم والقويم أن “من كان جزءاً في المشكلة أو سبباً فيها لا يمكن أن يكون جزءاً من حلّها”.
2- مخالفة حل الحكومة واقالة رئيسها لروح المادة (80) من الدستور، والتي فرضت ألا تقدم لائحة لوم ضد الحكومة خلال المدة المذكورة، وهي أولى مراحل حلها، والقاعدة أن حظر اتخاذ الإجراء الأقل حدة يمنع من اتخاذ الإجراء الأكثر جسامة، فإذا كان مجرد تقديم لائحة لوم ضد الحكومة محظور فكيف يكون حل الحكومة أو إقالة رئيس مشروعاً؟
خامساً: رأينا في السند القانوني الذي يمكن الاستناد إليه في تجميد اختصاصات مجلس النواب وحل الحكومة:
في رأينا، أنه يمكن الاستناد في قراراته تبعاً للفصلين (72) و(77) من الدستور، شرط أن تكون تدابيره تلك ذات طابع مؤقت. حيث نص الفصل (72) من الدستور على أن [رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور]. فرئيس الجمهورية هو بحكم وظيفته ومركزه النظامي هو أيضاً رئيس الدولة، بمعنى رئيس سلطاتها الثلاث، وهو ما يتبدى في أحكام استعرضناها، كتعيين رئيس الحكومة واقالتها وحل مجلس النواب وتعيين القضاة (وان كانوا مرشحين ابتداء من المجلس الأعلى للقضاء). حيث نص الفصل (106) من الدستور على أن: [يسمى القضاة بأمر رئاسي بناء على رأي مطابق من المجلس الأعلى للقضاء. يسمّى القضاة السامون بأمر رئاسي بالتشاور مع رئيس الحكومة، بناء على ترشيح حصري من المجلس الأعلى للقضاء..].
إذن فرئيس الدولة هو رأسها ورئيس سلطاتها الثلاث، في حدود ما يخوله الدستور من سلطات إزاء كل منها، ولا يمكن القول بأن لكلا الاصطلاحيين مدلول واحد، والا كان حشواً يتنزه عنه المشرع الدستوري.
وإذا كان ذلك كذلك، فإن رئيس الدولة يضمن استمرارية الدولة، بمعنى استمرارية عمل أجهزتها، والتي تعطلت بسبب التجاذبات السياسية في البلاد، ما أدخلها في حالة كانت لتمهّد لو أنها استمرت في طريق الفشل، اقتصادياً وصحياً.
كذلك، فإن السهر على احترام الدستور، يعني بالضرورة ضمان استمرار تطبيق أحكامه، والآليات التي حددها بشكلها وطريقها الطبيعيين، كما أراده واضعو الدستور الحالي، وهو ما تعطل إلى حد بعيد بارتكاب المجلس المذكور تصرفات وسلوكيات أخرجته حتى عن طبيعته ناهيك عن اختصاصاته التي كان يفترض به ممارستها ووظائفه التي كان عليه ممارستها.
وفي ذات السياق، ينص الفصل (77) من الدستور على أن [يتولّى رئيس الجمهورية تمثيل الدولة، ويختص بضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة..].
فإذا كان رئيس الجمهورية يختص وفقاً للنص السابق بضبط السياسات العامة، فإنه يختص من باب أولى بمنع الفوظى والتخبط فيها، وهو ما رأيناه بسبب عجز مجلس نواب الشعب والحكومة عن أداء وظائفهما بسبب التجاذبات السياسية التي قدمت المصالح الحزبية الضيقة على وجود الدولة وكيانها اللذان وضعا نتيجة لذلك على المحك.
إلا أن النصين السابقين، إذا كانا يخولان للدكتور قيس سعيّد بصفته رئيساً الدولة (لا رئيس الجمهورية) كلا من تجميد اختصاصات مجلس النواب وحل الحكومة، إلا أنهما لا يعنيان البتة مشروعية قرار تولي رئاسة النيابة العمومية، حيث أن رئيس الجمهورية ليس جزءاً من السلطة القضائية، ناهيك عن أن يكون رئيسها أو رئيس أي فرع منها، فكونه رئيساً للدولة ورأساً لها يجيز له في أحوال استثنائية تقتضي الحفاظ على كيان الدولة، فإن الطبيعة القضائية للنيابة العامة بعيد عن ذلك، حيث أن ذات قواعد إدارة العدالة الاعتيادية صالحة لإنجاز العدالة في الأحوال الاستثنائية كاحوال الطوارئ، سيما وأن الحفاظ على كيان الدولة وإدراتها لا علاقة مباشرة لهما بعمل النيابة العمومية.
كذلك، فإن أياً من حالة الطوارئ ولا صفة رئيس الجمهرية كرئيس للدولة، لا يخولان رفع الحصانة عن أعضاء مجلس نواب الشعب، حيث نص الفصل (68) من الدستور بشكل صريح على أنه [لا يمكن إجراء أي تتبع قضائي مدني أو جزائي ضد عضو بمجلس نواب الشعب، أو إيقافه، أو محاكمته لأجل آراء أو اقتراحات يبديها، أو أعمال يقوم بها، في ارتباط بمهامه النيابية].
فالتتبع القضائي، شأنه شأن العمل النيابي، واللذان يصب القراران الصادران بخصوصهما في الغاية ذاتها، من طبيعة لا تتصل التدابير العاجلة الخاصة بهما بحالة الطوارئ أو بحفظ كيان الدولة.
سادساً: اقتراح بالاستناد لأحكام المادة (88) التي تجيز لمجلس نواب الشعب طلب إقالة رئيس الجمهورية للبت في مدى دستورية قراراته الرئاسية الأخيرة.
نرى أنه وللخروج من المأزق السياسي والدستوري بتونس، يمكن الاستناد إلى للفصل (88) من الدستور، لأخذ رأي الهيئة المؤقتة للنظر في دستورية القوانين، في مدى دستورية القرارات الرئاسية الأخيرة، فإذا رأت الهيئة المذكورة، دستورية القرارات الرئاسية الأخيرة، أسكتت جميع الأصوات التي تقول بخلاف ذلك، وإذا رأت أنها غير دستورية، فإنها تقيل رئيس الجمهورية، ما تشكل معه ممارستها لاختصاصاتها في الحالتين خروجاً من المأزق السياسي والدستوري القائم حتى الآن في العزيزة تونس، ولا ينتظر الخروج قريباً منه للأسف.
وبالرجوع إلى الفصل (88) من الدستور، نجده ينص على أنه [يمكن لأغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب المبادرة بلائحة معللة لإعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور، ويوافق عليها المجلس بأغلبية الثلثين من أعضائه، وفي هذه الصورة تقع الإحالة إلى المحكمة الدستورية للبت في ذلك بأغلبية الثلثين من أعضائها ..].
إلا أن تطبيق النص السابق، تحفه عدة محاذير تعيق تفعيل الاختصاصات الواردة به، فمن ناحية فإن اختصاصات مجلس نواب الشعب مجمدة قانوناً بموجب قرارات رئيس الجمهورية، كما أنه ممنوع واقعياً من الوصول إلى قبة البرلمان، وأخيراً، فحتى بفرض نجاحه في طلب إقالة رئيس الجمهورية، فلا توجد محكمة دستورية مشكلة وقائمة بالفعل للنظر فيه.
وفي رأينا فإنه إذا كان رئيس الجمهورية قرر تجميد اختصاصات مجلس نواب الشعب، فإن أياً من تجميد الاختصاصات ولا حتى ذات حل مجلس نواب الشعبة، لا يمكن أن يشمل البتة اختصاص مجلس النواب في طلب إقالة رئيس الجمهورية في حال خرقه الجسيم لأحكام الدستور، وهو كما تقتضيه اعتبارات العقل والمنطق والتفسير السليم والقويم لنصوص الدستور، إذ أن ذلك يضمن حفظ التوازن الدقيق بين السلطتين التنفيذية والتشريعية من ناحية، ويضمن كذلك احترام نصوص الدستور من ناحية أخرى.
وفي جميع الأحوال يملك طلب اقالة رئيس الجمهورية لا إقالته ذاتها، حيث يكون للمحكمة الدستورية تقرير ذلك، الا انه إذا كانت المحكمة الدستورية غير مشكلة بعد (كما هو الواقع حالاً في تونس العزيزة على قلوبنا)، فهل يكون لمجلس نواب الشعب التقدم بمثل تلك اللائحة للمحكمة العليا مثلاً باعتبارها رأس السلطة القضائية؟ باعتبار أن وجود البديل ولو غير المقرر صراحة في النص خير من الوقوع في حالة من الفراغ الدستوي تعطل ممارسة الصلاحية، سيما في أحوال تعرض البلاد لخطر جسيم، حيث المفترض في الدستور أن يحمي كيان الدولة، يمعنى أن يكون خادماً لكيان الدولة لا أن يضحى بالدولة احتجاجاً باحترام الدستور. إضافة إلى أنه لا يصح ان يكتسب رئيس الجمهورية حصانة واقعية من الاقالة رغم تقريرها من حيث المبدأ فقط لكون الجهة التي تملك ذلك الا وهي المحكمة الدستورية غير مشكلة بعد.
الإجابة على المحاذير السابقة تنطوي على جانب من التعقيد؛ ففيما يخص طلب الإقالة، فإن لمجلس نواب الشعب، تقرير تقديم مثل هذا الطلب حتى خارج قبة البرلمان، حيث نص الفصل (51) من الدستور على أن [مقرّ مجلس نواب الشعب تونس العاصمة، وله في الظروف الاستثنائية أن يعقد جلساته بأي مكان آخر من تراب الجمهورية].
أما فيما يخص المحكمة الدستورية (ومدى إمكانية حلول المجلس الأعلى للقضاء مكانها) فقد قرر الدستور التونسي استقلالها عن القضاء العدلي والاداري والمالي وعن المجلس الأعلى للقضاء، حيث قسم الباب الخامس: تحت عنوان السلطة القضائية، الى قسمين؛ القسم الأول: القضاء العدلي والإداري والمالي. والقسم الثاني: المحكمة الدستورية.
كذلك، ينص الفصل (118) من الدستور على أن [1- المحكمة الدستورية هيئة قضائية مستقلة تتركّب من اثني عشر عضوا من ذوي الكفاءة، ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون الذين لا تقل خبرتهم عن عشرين سنة. 2- يعيّن كل من رئيس الجمهورية، ومجلس نواب الشعب، والمجلس الأعلى للقضاء، أربعة أعضاء، على أن يكون ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون. ويكون التعيين لفترة واحدة مدتها تسع سنوات].
ومن النص السابق، يتبدى بشكل واضح ميل المشرع الدستوري في تونس الى اضفاء طبيعة خاصة، مختلطة بين القانونية والسياسية، على المحكمة الدستورية (المفترضة).
وإذا كانت المحكمة الدستورية في تونس لم تتشكل بعد، فإن الفصل (148/2) والذي جاء ضمن الأحكام الانتقالية للدستور، نص على أن [2- تدخل الأحكام الآتي ذكرها حيز النفاذ على النحو التالي: … تدخل أحكام القسم الثاني من الباب الخامس المتعلق بالمحكمة الدستورية باستثناء الفصل (118) حيز النفاذ عند استكمال تعيين أعضاء أول تركيبة للمحكمة الدستورية].
والظاهر من النص السابق، أنه لم يتحدث النص هنا عن الصلاحيات الأخرى للمحكمة الدستورية التي قررتها نصوص متفرقة أخرى في إطار علاقة هذه المحكمة بالسلطات الأخرى في البلاد خلاف السلطة القضائية، حيث ان لهذه المحكمة صلاحيات أصيلة على رأسها الرقابة على دستورية القوانين. وصلاحيات تقاطعية أو توازنية تتصل بحدود ما منحها القانون من اختصاصات تدخلية بباقي السلطات الأخرى في البلاد، كالسلطة التنفيذية تحديداً صلاحية إقالة الرئيس في حال خرقه الجسيم لأحكام الدستور والتي هي موضوع الحديث في هذا المقام.
وبالرجوع للفصل (148/7) والذي جاء ضمن الأحكام الانتقالية للدستور، نجده يفرض سلطة ذات اختصاص مؤقت، تقوم مقام المحكمة الدستورية، وتمارس اختصاصاتها، الى حين تشكيلها بالفعل. حيث ينص على أن [7- يحدث المجلس الوطني التأسيسي بقانون أساسي، خلال الأشهر الثلاثة التي تلي ختم الدستور، هيئة وقتية تختص بمراقبة دستورية مشاريع القوانين وتتكوّن من:
• الرئيس الأول لمحكمة التعقيب رئيسا، • الرئيس الأول للمحكمة الإدارية عضوا،
• الرئيس الأول لدائرة المحاسبات عضوا،
• ثلاثة أعضاء من ذوي الاختصاص القانوني يعينهم تباعا وبالتساوي بينهم كل من رئيس المجلس الوطني التأسيسي ورئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. وتعتبر سائر المحاكم غير مخوّلة لمراقبة دستورية القوانين].
وإذا كان النص السابق، يحصر اختصاص تلك السلطة بالرقابة على دستورية القوانين، فإن ذلك جاء ضمن استعراض الاختصاص الأصيل للمحكمة الدستورية، ولا يمنع من تعميم حكمه ليشمل اختصاصاً أكثر أهمية لكيان الدولة، يتمثل في ضمان احترام الدستور ذاته، من خلال النظر بإقالة رئيس الجمهورية في حال خرقه الجسيم للدستور.
مما سبق، نخلص إلى القول بأنه وحتى مع تجميد اختصاصات مجلس نواب الشعب، فإن ذلك لا يشمل اختصاصه بطلب إقالة رئيس الجمهورية، وإن لهذا المجلس عقد جلساته في أي مكان من التراب التونسي (أي داخل تونس)، وأخيراً فأن اختصاص الهيئة المؤقتة للنظر في دستورية القوانين يمتد ليشمل حماية الدستور ذاته، من خلال نزره في طلب اقالة رئيس الجمهورية لخرقه الجسيم للدستور، وهو ما يسعفنا بإسباغ رقابة دستورية (قانونية وسياسية) على قرارات رئيس الجمهورية الأخيرة، بما يفصل معه في أي خلاف يثور بين الأطراف السياسية المتجاذبة بتونس حول مدى دستورية القرارات الرئاسية الأخيرة.
سابعاً: فرض الدستور حياد القوات المسلحة والأمن العام:
في ختام هذه المقالة، لا بد من التنويه إلى الخلاف الذي ثار حول طلب الرئيس قيس سعيّد دعم القوات المسلحة لقراراته، وتوجيه الاتحاد العام للشغل التحية لهذه القوات، ما يعتبر معه خطأ سياسي فادح أتاح لبعض الأطراف المتجاذبة في تونس لوصف تلك القرارات بالانقلاب.
وفي رأينا، فإن الدستور جاء صريحاً في تحريم الزج بالقوات المسلحة في الحياة السياسية بالدولة، فصحيح أن رئيس الدولة هو القائد العام للقوات المسلحة، حيث نص الفصل (77/2/ج) على أنه [1- يتولى رئيس الجمهورية … 2- كما يتولى: … ج- القيادة العليا للقوات المسلحة …].
الا ان تقلّد رئيس الجمهورية للقيادة العليا للقوات المسلحة لا يعني البتة أن يعين هو اختصاصاتها سواء الايجابية منها أو السلبية، يمعنى أن يوجه لها أوامر تتجاوز حدود اختصاصاتها المعينة بالدستور والقانون، أو أوامر بتجاوز ما يحظر عليها بموجب نص صريح في الدستور القيام به، والذي يعد أهم ما جاءت به الثورة التونسية من إنجازات على الصعيد الدستوري.
والمقصود بالاختصاص السلبي، أو الأمر المحظور فيما ذكر آنفاً هو افرض الضريح لحياد كل من القوات المسلحة والقوات الأمنية، ما يعني أنه يحظر على أي من هذه القوات التدخل في السياسة، أو ترجيح كفة تيار أو طيف سياسي على آخر بالقوة. حيث نص الفصل (18) من الدستور على أن [الجيش الوطني جيش جمهوري وهو قوة عسكرية مسلحة قائمة على الانضباط، مؤلفة ومنظمة هيكلياً طبق القانون، ويضطلع بواجب الدفاع عن الوطن واستقلاله ووحدة ترابه، وهو ملزم بالحياد التام. ويدعم الجيش الوطني السلطات المدنية وفق ما يضبطه القانون].
وذات الحكم نجده بخصوص القوات الأمنية، رغم تبعتيتها بطبيعة الحال للحكومة ممثلة بوزراة الداخلية، حيث نص الفصل (19) من الدستور على أن [الأمن الوطني أمن جمهوري، قواته مكلفة بحفظ الأمن والنظام العام وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات وإنفاذ القانون، في كنف احترام الحريات وفي إطار الحياد التامّ].
ذلك ما كان من أمر اجتهادي في هذه المسألة، ورأيي يبقى صواباً يحتمل الخطأ ورأي غيري يحتمل الصواب، فإن أصبت فمن الله وتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، فعسى أن أكسب باجتهادي هذا الأجرين لا الأجر الواحد، والله من وراء القصد، وشكراً.
* خبير في القانون من المملكة الأردنية.
شارك رأيك