بعد الإجراءات الدستورية الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيد يوم 25 جويلية 2021، والتي ما زالت تثير جدلا كبيرا داخل الطبقة السياسية و النخب الفكرية، تونس محتاجة أكثر من أي وقت مضى إلى مخطّط عمل وخارطة طريق واضحة و نافذة، تتبلور في عدّة نقاط من بينها السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي والثقافي وغيره… مقترحات و أفكار على طاولة النقاش…
بقلم ميلاد خالدي *
إذا تحدّثنا عن خارطة طريق، فهذا المصطلح قد انبثق من رحم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وتبعياته و السبل الكفيلة للخروج من الأزمة المُنجرّة عنه. إنّها خارطة للطريق أو مخطّط للعمل مفصّل و محكوم بالزمن وبالفعل، ليس بالنيّة وحدها تُبنى الدول و إنّما بالمبادرة والأداء و الحصيلة. إذن فتونس محتاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلى مخطّط عمل وخارطة طريق واضحة و نافذة، تتبلور في عدّة نقاط من بينها السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي والثقافي وغيره…
الخارطة السياسية…
أولاًّ: العمل على تجميد نشاط الأحزاب و تعليق أعمال مجلس النواب لمدّة ثلاث سنوات و هي المُدّة المتبقيّة للمرحلة النيابية الحالية و تمتيعهم فقط بمستحقاتهم المالية مقابل ما قاموا به خلال هذه الفترة الفاشلة و المنخورة وليس ما يروّجونه، بالتمتع بمجمل منحهم و مرتباتهم.
ثانيا: منع الأحزاب المموّلة من الخارج، حسب تقرير دائرة المحاسبات، من الترشّح للانتخابات التشريعية و الرئاسية القادمة.
ثالثا: محاربة الفساد و محاسبة الفاسدين واسترجاع الأموال المنهوبة و الأموال المُصادرة، ومحاربة الفساد يجب أن يكون قرارا سياسيا بامتياز يُطبّق دون بروباغندا بائسة ومصلحية، فمن الحريّ أن تكون إرادة دولة و شعب.
رابعا: تغيير نظام الحكم والقانون الانتخابي وإجراء استفتاء شعبي لتغيير الدستور الحالي المتهالك والمليء بالثغرات والمنصوب بالألغام والفخاخ. في تقديري، تغيير النظام السياسي من نظام برلماني معدّل إلى نظام رئاسي هو الاستحقاق الشعبي الذي يبحث عنه أغلبية الشعب، مع ضرورة الحرص على احترام جميع الحقوق و الحريّات وعدم المساس بها، إذ لا مجال للعودة إلى الحكم الاستبدادي و النظام الشمولي. صحيح نحن مع نظام رئاسي و لكن ليس ذلك النظام الرئاسي الذي يحتكر السلطات التنفيذية و التشريعية و القضائية في يد واحدة و يستبدّ بها و لا يفصل بينها. الحذر كلّ الحذر.
خامسا: حصرُ عدد الأحزاب في ثلاثة أو أربعة أحزاب لا غير و إدراجهم في عناوين و تسميات واضحة و مُعلنة: حزب ليبرالي، حزب اجتماعي اشتراكي، حزب إسلامي وسطي أو حزب وطني شعبي. لأنّ التناسخ الرهيب للأحزاب، دون قلب ولا روح، حيث أثبتت أنّها مجرّد نسخ مشوّهة، فكثرة الأحزاب لا تعني أنّ البلاد تعيش ديمقراطية و تعدديّة و هذا ضروري لكن ليس بالصفة الاستنساخية الفارغة و الجشعة. ففي أعتى الديمقراطيات في العالم نُلفي وجود حزبين أو ثلاثة كالولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا مع أنّ الممارسة الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان هناك في أروع صورها و أنقاها. الكثرة تعني التميّع والانحلال. القلّة تعني الثبات و التركيز و وحدة الهدف.
على الأحزاب في هذه الفترة أن تلتزم الرصيف وأن تقتصر على المشاهدة فقط و أن ترسم لنفسها حدودا لا تتجاوزها، تُرسم حتى بالمسطرة و البركار. فعبور الطريق في هذه الفترة محفوف بالمخاطر: أضواء حمراء تشتغل طوال الوقت، تُحذّرها من عربات القانون والمحاسبة القادمة من اليمين وعربات التنديد الشعبي القادمة من اليسار. التزام الرصيف هو بمعنى آخر ضرورة، ضرورة أن يُلجموا هممهم و برامجهم و مخططاتهم الشخصية الضيّقة. مسطرة للرصيف هو إعادة كلّ معوّج إلى الجادّة وتسطير ما علينا فعله من خلال مخطّط ثلاثي وخماسي و عشاري لإخراج تونس من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبّط فيها.
الخارطة الاقتصادية و الاجتماعية…
في ظلّ تدهور الوضعية المالية للشركات العمومية و مشارفتها الإفلاس، و على سبيل الذكر لا الحصر: شركة الطيران التونيسار، شركة فسفاط قفصة، وكالة التبغ و الوقيد وغيرها. ففي رأيي غير المتواضع ضرورة خوصصة هذه القطاعات مع تشديد المراقبة والمتابعة المستمرتين من هياكل الدولة لتشمل الجودة و الأسعار و التنافسية. فالدولة عليها أن تُؤمّم الصحّة و التعليم و النقل و السكن تأميمًا كليّا لا غير و فتح باب الخوصصة للشركات الربحية المنتجة التي ذكرتها و الانتصاب على الحساب الخاصّ لا سيّما إذا اعتبرنا أنّ القطاع الخاصّ هو الذي يخلق الثروة في تونس. وكلمّا زادت الثروة إلاّ و خُلقت مواطن الشغل و تقلّص منسوب البطالة المُستشرية في صفوف حاملي الشهائد العليا.
الاعتكاف على إصلاح المنظومة الصحيّة و التعليمية و النقل و السكن: الرباعي المقدس الراعي لكرامة الإنسان عامّة و المواطن التونسي خاصّة. هذه القطاعات التي اهترأت و أبدعوا في ترذيلها. إذا استهللنا الأمر بالقطاع الصحي فلم يعد لدينا صحّة عمومية تحترم أدنى مقوّمات الذات البشرية، يمكن أن يلجأ إليها عموم الشعب بمختلف مستوياته. أن تكون لنا صحّة عمومية فذلك هو الأصل، فالقطاع الخاص في هذه المجالات هو الاستثناء و ليس العكس. و الأمر كذلك ينطبق على التعليم الذي أصبح خارج التاريخ و الجغرافيا بتخلّف برامجه و تقادم مؤسساته ومعدّاته وحتمية إجراء إصلاح جذري و عميق و متطوّر يُلبّي حاجيات الطالب الذهنية و المعرفية و النقدية مع الاستغناء على شعب واختصاصات لم تعد تواكب لا سوق الشغل و لا عصرنا الرقمي المتسارع.
أمّا رافد النقل، فقوّة النقل و المواصلات من قوّة الدولة سواء كانت بريّة بحرية أو جويّة، فإذا كان أسطول النقل الذي يحمل المواطنين مهترئا فتأكّد أنّ الدولة مهترئة و يضربها الهوان و العكس بالعكس. حيث حان الوقت أن تتحمّل الدولة مسؤوليتها في تجديد الأسطول و تنويعه و تعصيره مع ربط الطرقات بشبكة طرقات سريعة ومحطات توقّف تحترم راحة المسافر وتحرص على وصوله في الإبّان.
أخيرا وليس آخرا، السكن و ما أدراك ما السكن، ذلك الكابوس الذي يعيشه التونسي ويكتوي بلهيب أسعار الكراء من ناحية و من ناحية أخرى حلمه المستحيل و البعيد في اقتناء منزل وامتلاكه. على الدولة، في هذا الشأن، أن تتدخّل عن طريق شركات الإسكان والإعمار التابعة لها من أجل توفير شقق للمواطنين بأسعار معقولة، وليس عن طريق الشركات العقارية التي لا تنفكّ تنهش لحم الموظف البائس وتستنزف موارده المُعدمة.
هذه المرافق الحياتية الأربعة التي تُشكّلُ رفاهية المواطنين و جودة حياة الشعوب هي من أولويات الدول التي تحترم نفسها دون خطابات رنّانة وجوفاء. لذا فخارطة الطريق يجب أن تشرع في فتح هذه الملفّات وتشغيل المسطرة الضامنة لاستواء المشاريع و عدم الانحراف بها عن جادّة الضمير و وازع الوطنية. وكلّ من تسوّل له نفسه الزيغ فمكانه حجر الرصيف الرمزي والإجرائي…
الخارطة الثقافية و تنمية الوعي الأفقي...
كنّا نتمنى أنّ ما حصل يوم 14جانفي 2011 هو ثورة ثقافية، ثورة يقودها المثقفون الحقيقيون و المستنيرون و النخبة الطلائعية المنفتحة لكن هذا لم يحصل و من الصعب أن يحصل ما لم تتوفر أرضية فكرية و ثقافية صلبة و حاضرة مسبقا. فقد أثبتت التجارب المقارنة أنّ الشعوب التي تشهد وعيا متقدّما تكون ثوراتها و انتفاضاتها ناجحة و محصّنة ضدّ كلّ اختراق أو فشل أو نكوص.
حسنا، ماذا علينا فعله، في تونس، في الوقت الراهن من قبيل الإعداد لخارطة ثقافية تفتح الوعي الأفقي وتزيد في منسوبه بين المواطنين؟
أوّلاٌ : مضاعفة الميزانية المرصودة لوزارة الثقافة ثلاث مرّات لتبلغ 3 بالمائة بالمقارنة بما هو موجود حاليا.
ثانيا: بناء و تشييد مُركبات ثقافية مجهّزة بالكامل، تضم مكتبات ضخمة و نوادي و قاعات مسرح للتدرب و الأداء و قاعات سينما و أروقة للرسم وقاعات لورشات للكتابة الابداعية و غيرها يؤطرها ثُلّة من المبدعين والمُثقفين مع دفع الدولة مستحقاتهم بصفة مجزية و ليس تلك المليمات المُخزية التي يتقاضونها.
ثالثا: نفس الأمر ينطبق على المدارس و المعاهد و الجامعات من ضرورة توفير كامل مستلزمات االعمل و الإبداع ماديًّا و معنويًا.
رابعًا : اصدار قانون يُجبر وسائل الاعلام بمختلف أصنافها على بثّ 20 بالمائة على الأقلّ، و بصفة يومية، مادّة ثقافية توعوية من مُجمل برامجها، وحين نتحدّث عن مادّة ثقافية لا نتحدّث عن مادّة للتسلية و الترفيه، كما يجب أن تضمّ هذه النسبة على برامج تُعنى بكافّة مجالات الثقافة التونسية كي لا ينشأ جيل منبتّ وخاو، فبناء جيل واعد وواع يبدأ من خلال تغذية روحه و شخصيته و ذهنه. و كما يشير عالم الانتروبولوجيا البولندي برونيسلاو مالينوفسكي في كتاباته على أنّ الثقافة تُحسّن من وضع الإنسان. فالشخصية الثريّة والقويّة والمُحبّة لبلادها هي التي تصنع أمجاد الأوطان و ليس الأخر الغريب الذي يطلُّ علينا من وراء البحار و المحيطات.
إذن، فالبعد الثقافي هو من أوكد الأولويات بعد إنقاذ الاقتصاد، فتنمية الوعي الأفقي هو نتاج البعد الثقافي المفتوح، فالشعب الذي يقرأ و يستمع إلى الموسيقى الراقية و يشاهد المسرح و السينما و ينقد لا يمكنه إلاّ أن يكون متحضّرا وواعيا وهادئا يفكّر بعقله لا بعواطفه، يحلّل و يناقش، يقبل ثمّ يدحض إذا لزم الأمر. إنّه الوعي الأفقي الذي يعمل على نقل العدوى الحضارية بين الناس على نحو أفقي واسع وشامل ولانهائي دون تفرقة أو فرز، وليس ذلك الوعي العمودي الذي يقتصر على نخبة النخبة و في سياقات معيّنة فقط. إنّها الثقافة بتمظهراتها الكثيرة الكفيلة بتُأجيج شعلة الوعي الأفقي: شعب متشبّع معرفيًا و روحيًا و قيميًا هو شعب مُحترم ومُنظم و نظيف وعقلاني وحرّ و العكس دقيق و صحيح. وبالتّالي، ضرورة أن يترافق مع الخارطة الثقافية في البداية مسطرة القانون الذي عليه أن يُطبّق على كلّ من يخالف نواميس العيش المشترك. فالوعي الأفقي لا يُبنَى في غضون شهور أو بضع سنوات، هو بالأحرى، مسار محفوف بالانزلاقات، لذلك وجب تدخّل المسطرة ووضع كل مخالف على الرصيف. لتَعش المسطرة و الرصيف في أفق الخارطة و الوطنية و الوعي !
* كاتب من تونس.
شارك رأيك